علاء الأسواني يكتب: ماذا حدث لسيادة اللواء؟!
هذا المحتوى من جريدة المصري اليوم
سيادة اللواء وفضيلة الشيخ يشتركان فى أمور كثيرة.. الاثنان جاوزا السبعين ويتمتعان بصحة جيدة، الاثنان ينامان ويستيقظان مبكرا، كما أن الاثنين يسكنان فى الحى ذاته: التجمع الخامس، بل إن القصر الفخم الذى يقيم فيه فضيلة الشيخ لا يبعد عن قصر سيادة اللواء إلا بضع دقائق بالسيارة. كل هذه الاعتبارات تسهل لقاءهما عند الضرورة. مع التطورات التى حدثت الأسبوع الماضى اتصل فضيلة الشيخ بسيادة اللواء وطلب لقاءه فوافق على الفور واتفقا على أن يتناولا الإفطار معا.
فى اليوم التالى الساعة الثامنة صباحا.. توقفت أمام قصر سيادة اللواء السيارة المرسيدس السوداء الفارهة التى تقل فضيلة الشيخ وسرعان ما قفز منها اثنان من الحراس الشخصيين، فتح أحدهما الباب لينزل الشيخ بينما راح الحارس الآخر يجول بنظره محدقا كالصقر فى أرجاء المكان وقد استعد بيده على زناد البندقية الآلية التى يحملها.. كان اللواء ينتظر الشيخ على المائدة فى قاعة كبيرة متفرعة من بهو القصر.. رحب اللواء بالشيخ الذى احتضنه بود ثم جلس بجواره.. على المائدة كان الإفطار يجمع بين فنون المطبخ الفرنسى وتقاليد الريف المصرى العريقة، راح السفرجى النوبى يقدم الأطباق بلهجة مهذبة وحروف واضحة: كان هناك كرواسون وباتيه بالجبن واللحم والسبانخ، وكان هناك أيضا فطير مشلتت ساخن وفول مدمس وبيض وأنواع عديدة من الجبن ثم أطباق صغيرة ممتلئة بالعسل الأبيض بالقشدة.
كان ذلك إفطار عمل، كما يقول الدبلوماسيون.. راح اللواء والشيخ يأكلان ويتحدثان.. بدأ اللواء قائلا:
ـــ ألف مبروك نجاحك فى الانتخابات يا فضيلة الشيخ.
ـــ الحمدلله، ربنا نصرنى وما النصر إلا من عند الله.
ـــ ونعم بالله.. بصراحة بقدر فرحتى بفوزك الساحق إلا أن لى عتابا عليك.
ـــ خير يا سيادة اللواء..؟
ــ يا أخى.. لما يكون عندك ملاحظة على قرار أنا اتخذته لماذا لا تتصل بى مباشرة بدلا من أن توجه لى نقدا فى الإعلام.
ــ حاضر يا فندم.
هكذا قال الشيخ ثم قضم البيضة المسلوقة التى فى يده. على أن اللواء انفعل فجأة قائلا:
ـــ على فكرة دى مش أول مرة.. كل مرة تقول لى كلام وتعمل العكس.
قطب الشيخ حاجبيه وكأنما انزعج من لهجة اللواء وقال بنبرة جافة:
ــ سيادة اللواء. الموضوع لا يستاهل كل ذلك.
ــ لأ يستاهل، أنت تريد أن تعمل بطلا على حسابى.
ــ أنا لم أخطئ، لقد عبرت عن رأيى فى الإعلام، ورغم ذلك لن أكرر ذلك إكراما لك.
ــ أنا لا أحتاج إلى كرمك.
ــ يا فندم. أنت تعلم احترامى لك لكن لا تنس أننى أمثل الشعب.
ــ لقد أردت لك أن تفوز ففزت فى الانتخابات، ولو أردت لك أن تخسر لكنت خسرت..
هنا وضع الشيخ اللقمة فى فمه وبعد أن مضغها وبلعها قال لسيادة اللواء:
ــ اسمح لى أنت لست سبب نجاحى، لقد نجحت بتوفيق ربنا ومجهودى.
ــ إنت باين عليك صدقت نفسك.
ــ سيادة اللواء، أرجو أن تتمالك أعصابك، أنا أحترم سيادتك وأتوقع أن تحترمنى.
كان اللواء قد بدا عليه التحفز وهمس بشىء ما للسفرجى الذى غاب لحظة ثم عاد بحقيبة صغيرة مغلقة وضعها بجوار مقعد الشيخ. مرت لحظة من الصمت ثم قال اللواء:
ـــ أرجو أن تأخذ هذه الحقيبة معك إلى البيت. افتحها وافحص محتوياتها جيدا.
ـــ ماذا فى الحقيبة..؟!
ــ كل المخالفات التى ارتكبتها موثقة بالصوت والصورة.. سوف تجد بيانا بالأموال التى قبضتها.
ــ عن أى أموال تتحدث..؟!
ــ أنت تفهمنى جيدا، الأموال التى انهمرت عليك من الخارج، فى هذه الحقيبة سوف تجد صورا من الشيكات التى قبضتها بأرقامها وتواريخ صرفها.
ــ يا سيادة اللواء من فضلك.
ــ سوف تجد وقائع شراء الأصوات التى قمت بها.. سوف تجد فيديوهات تثبت كيف استغللت جهل الناس وفقرهم من أجل إرغامهم على التصويت فى صالحك.
ــ يا فندم. لا داعى لهذا الكلام.
ــ كل هذه الأدلة سوف أتقدم بها فى بلاغات ضدك وسوف نترك الأمر كله للقضاء.
ــ يا فندم أرجوك..
ــ هل يضيرك تنفيذ القانون يا فضيلة الشيخ..؟
ــ بل يضيرنى غضب سيادتك.. أرجوك يا فندم لا تغضب.
تنهد اللواء وعاد بظهره إلى الخلف ورشف من فنجان الشاى وقال:
ــ يبقى كل ما أقوله يجب أن تسمعه.
ــ تحت أمرك.
ـــ إياك أن تتصور فى أى لحظة أنك أصبحت قويا وأننى لن أقدر عليك.
ـــ يا فندم أنا دينى يأمرنى بطاعتك..
ـــ يبقى لما يكون عندك ملاحظات تقول لى قبل ما تتكلم فى الإعلام، مفهوم..؟
ــ مفهوم يا فندم.
اندفع الشيخ يقول كأنما يريد أن يستعيد الصفاء بينهما:
ــ يحزننى أن تشك سيادتك حتى الآن فى إخلاصى.
ـــ أفعالك هى الفيصل.
هكذا قال اللواء بهدوء، فاندفع الشيخ يقول:
ــ يا فندم، لقد كنت أطالب من البداية بدستور جديد للبلاد، كان هذا موقفى المعلن لكنى عندما علمت أن رغبة سيادتكم إجراء تعديلات على الدستور القديم غيرت موقفى تماما وساندت التعديلات بكل قوة.. أظن سيادتك تذكر ذلك.
هز اللواء رأسه، واستطرد الشيخ قائلا:
ــ لم أتخذ موقفا واحدا ضد سيادتك، من أجلك أنت خسرت أصدقاء كثيرين، حتى أثناء الأحداث الدامية المؤسفة لم أفتح فمى بكلمة ضد سيادتك.
ساد الصمت من جديد، وقال الشيخ بإلحاح:
ــ خلاص يا فندم. سيادتك راض عنى..؟!
قال اللواء:
ــ بشرط أن تسمع الكلام..
ــ تحت أمرك.
انتقل الشيخ واللواء إلى الحديث عن تفاصيل ما سوف يفعلانه معا فى المستقبل، كانا قد انتهيا من الطعام، واقترح اللواء أن يشربا القهوة فى المكتب، سارا عبر الردهة الطويلة حتى دخلا من الباب إلى قاعة المكتب الفخمة الفسيحة، جلس اللواء خلف المكتب المصنوع من خشب الآرو بينما جلس الشيخ فى المقعد الوثير المواجه له، كان اللواء قد أعد ورقة صغيرة بالموضوعات التى يريد أن يناقشها مع الشيخ.. على مدى ساعة تحدث اللواء والشيخ واتفقا تماما فى وجهات النظر..
انتهى اللقاء بطريقة ودية واصطحب اللواء الشيخ وظل واقفا يلوح له بيده حتى ابتعدت السيارة. كان اللواء يحس برضا كامل عن اتفاقه مع الشيخ وكانت لديه تقارير كثيرة يجب أن يطالعها فعاد إلى مكتبه وهرع إليه الفرّاش بفنجان القهوة المضبوط.. قرأ الأوراق وأجرى عدة اتصالات تليفونية مهمة وبعد نحو ساعة من العمل، عاد اللواء بظهره فى المقعد ووضع يديه خلف رأسه. كان يريد أن يستريح قليلا لكنه لما أغمض عينيه وفتحهما وجد شيئا غريبا على الجدار المواجه للمكتب، لمح تهويمات أو خيالات تتحرك على الجدار أمامه، أحس اللواء بانزعاج وحدق من جديد فرأى على الجدار أربعة أو خمسة وجوه لشبان فى العشرينيات من العمر، الغريب أن وجوه الشبان كانت هيئتها واحدة. كانوا يتطلعون إليه بعين واحدة، أما العين الأخرى فكانت فارغة مثقوبة تعكس فراغا أسود.
أحس سيادة اللواء برهبة وتأكد له أنه يعانى من هلوسة ما نتيجة للإرهاق، فكر أن هذه التهيؤات سوف تتلاشى بالتأكيد إذا نال قسطا من الراحة، أغمض عينيه لحظات ثم فتحهما من جديد لكن الوجوه لم تختف من فوق الجدار بل إنها ازدادت، الوجوه ذات العيون المفقودة انضمت إليها وجوه أخرى كلها مصابة بطلقات رصاص فى أعلى الرأس أو فى الرقبة.. كانت الوجوه كلها تحمل تعبيرا واحدا غامضا نهائيا، صارما ومخيفا.
غرق اللواء فى الحيرة وانحنى إلى الأمام وقد وضع رأسه بين يديه، بعد حوالى دقيقتين، رفع رأسه وهو يتفادى النظر إلى الجدار ثم أضاء نور الحجرة على آخره، كانت هذه محاولته الأخيرة، كان أمله أن يبدد النور الساطع الخيالات التى تطارده، راح قلبه يدق بقوة ثم فتح عينيه ونظر فى الضوء، كان الجدار قد صار مزدحما عن آخره بالوجوه، بالإضافة إلى الوجوه ذات العيون المثقوبة والوجوه التى تحمل طلقات الرصاص ظهرت وجوه أخرى كثيرة، وجوه مربدة متشنجة كأنها مختنقة بغازات سامة ووجوه ملامحها مشوهة تماما كأنما قد تم دهسها تحت عجلات سيارة.
هذه المرة أحس اللواء بأن الوجوه كلها تتزاحم عليه. تقترب منه وهى تحمل كلها فكرة واحدة، كأن لها جميعا إرادة معينة تصر على تنفيذها، مد اللواء يده ورن الجرس بعنف عدة مرات فهرع إليه سكرتيره الخاص، حاول اللواء أن يبدو متماسكا، تبادل معه حديثا عابرا وعندما نظر السكرتير نحو الجدار فهم اللواء حالاً أن الوجوه الرهيبة التى تطالعه لا يستطيع السكرتير أن يراها. عندئذ صرف اللواء السكرتير وأسرع بالخروج من المكتب وهو يقنع نفسه بالتفسير الوحيد الذى يستطيع تقبله.. استقر فى يقينه أنه مرهق وأن هذه الأشكال التى لاحت على جدار مكتبه ليست إلا ظلالا صورها له ذهنه المتعب.
بذل اللواء مجهودا مضنيا حتى سيطر على نفسه وعاش يوما عاديا بل إنه تعمد أن يأخذ زوجته وابنته الكبرى إلى النادى بعد الظهر حيت تناولوا العشاء.. عندما عاد إلى البيت دخلت زوجته لتنام بينما جلس هو وحيدا أمام التليفزيون فى الصالة الكبيرة التى تقع فى الدور الأول للقصر، كان يحس بقلق حقيقى، كان يخشى الدخول إلى مكتبه، لم يصدق نفسه عندما تطلع إلى الستارة الكبيرة أمامه فوجد نفس الوجوه، نفس العيون المثقوبة والوجوه المختنقة بالغاز والوجوه المقتولة بالرصاص والوجوه الممزقة المشوهة المدهوسة تحت العجلات.. أحس اللواء بفزع، ارتعد، كاد يصرخ، رفع كفيه ليغطى بهما عينيه حتى لا يرى كل هذه الوجوه المقتولة لكنه فوجئ بأن يديه ملطختان بالدم تماما.. ماذا حدث لسيادة اللواء..؟!.
سيادة اللواء وفضيلة الشيخ يشتركان فى أمور كثيرة.. الاثنان جاوزا السبعين ويتمتعان بصحة جيدة، الاثنان ينامان ويستيقظان مبكرا، كما أن الاثنين يسكنان فى الحى ذاته: التجمع الخامس، بل إن القصر الفخم الذى يقيم فيه فضيلة الشيخ لا يبعد عن قصر سيادة اللواء إلا بضع دقائق بالسيارة. كل هذه الاعتبارات تسهل لقاءهما عند الضرورة. مع التطورات التى حدثت الأسبوع الماضى اتصل فضيلة الشيخ بسيادة اللواء وطلب لقاءه فوافق على الفور واتفقا على أن يتناولا الإفطار معا.
فى اليوم التالى الساعة الثامنة صباحا.. توقفت أمام قصر سيادة اللواء السيارة المرسيدس السوداء الفارهة التى تقل فضيلة الشيخ وسرعان ما قفز منها اثنان من الحراس الشخصيين، فتح أحدهما الباب لينزل الشيخ بينما راح الحارس الآخر يجول بنظره محدقا كالصقر فى أرجاء المكان وقد استعد بيده على زناد البندقية الآلية التى يحملها.. كان اللواء ينتظر الشيخ على المائدة فى قاعة كبيرة متفرعة من بهو القصر.. رحب اللواء بالشيخ الذى احتضنه بود ثم جلس بجواره.. على المائدة كان الإفطار يجمع بين فنون المطبخ الفرنسى وتقاليد الريف المصرى العريقة، راح السفرجى النوبى يقدم الأطباق بلهجة مهذبة وحروف واضحة: كان هناك كرواسون وباتيه بالجبن واللحم والسبانخ، وكان هناك أيضا فطير مشلتت ساخن وفول مدمس وبيض وأنواع عديدة من الجبن ثم أطباق صغيرة ممتلئة بالعسل الأبيض بالقشدة.
كان ذلك إفطار عمل، كما يقول الدبلوماسيون.. راح اللواء والشيخ يأكلان ويتحدثان.. بدأ اللواء قائلا:
ـــ ألف مبروك نجاحك فى الانتخابات يا فضيلة الشيخ.
ـــ الحمدلله، ربنا نصرنى وما النصر إلا من عند الله.
ـــ ونعم بالله.. بصراحة بقدر فرحتى بفوزك الساحق إلا أن لى عتابا عليك.
ـــ خير يا سيادة اللواء..؟
ــ يا أخى.. لما يكون عندك ملاحظة على قرار أنا اتخذته لماذا لا تتصل بى مباشرة بدلا من أن توجه لى نقدا فى الإعلام.
ــ حاضر يا فندم.
هكذا قال الشيخ ثم قضم البيضة المسلوقة التى فى يده. على أن اللواء انفعل فجأة قائلا:
ـــ على فكرة دى مش أول مرة.. كل مرة تقول لى كلام وتعمل العكس.
قطب الشيخ حاجبيه وكأنما انزعج من لهجة اللواء وقال بنبرة جافة:
ــ سيادة اللواء. الموضوع لا يستاهل كل ذلك.
ــ لأ يستاهل، أنت تريد أن تعمل بطلا على حسابى.
ــ أنا لم أخطئ، لقد عبرت عن رأيى فى الإعلام، ورغم ذلك لن أكرر ذلك إكراما لك.
ــ أنا لا أحتاج إلى كرمك.
ــ يا فندم. أنت تعلم احترامى لك لكن لا تنس أننى أمثل الشعب.
ــ لقد أردت لك أن تفوز ففزت فى الانتخابات، ولو أردت لك أن تخسر لكنت خسرت..
هنا وضع الشيخ اللقمة فى فمه وبعد أن مضغها وبلعها قال لسيادة اللواء:
ــ اسمح لى أنت لست سبب نجاحى، لقد نجحت بتوفيق ربنا ومجهودى.
ــ إنت باين عليك صدقت نفسك.
ــ سيادة اللواء، أرجو أن تتمالك أعصابك، أنا أحترم سيادتك وأتوقع أن تحترمنى.
كان اللواء قد بدا عليه التحفز وهمس بشىء ما للسفرجى الذى غاب لحظة ثم عاد بحقيبة صغيرة مغلقة وضعها بجوار مقعد الشيخ. مرت لحظة من الصمت ثم قال اللواء:
ـــ أرجو أن تأخذ هذه الحقيبة معك إلى البيت. افتحها وافحص محتوياتها جيدا.
ـــ ماذا فى الحقيبة..؟!
ــ كل المخالفات التى ارتكبتها موثقة بالصوت والصورة.. سوف تجد بيانا بالأموال التى قبضتها.
ــ عن أى أموال تتحدث..؟!
ــ أنت تفهمنى جيدا، الأموال التى انهمرت عليك من الخارج، فى هذه الحقيبة سوف تجد صورا من الشيكات التى قبضتها بأرقامها وتواريخ صرفها.
ــ يا سيادة اللواء من فضلك.
ــ سوف تجد وقائع شراء الأصوات التى قمت بها.. سوف تجد فيديوهات تثبت كيف استغللت جهل الناس وفقرهم من أجل إرغامهم على التصويت فى صالحك.
ــ يا فندم. لا داعى لهذا الكلام.
ــ كل هذه الأدلة سوف أتقدم بها فى بلاغات ضدك وسوف نترك الأمر كله للقضاء.
ــ يا فندم أرجوك..
ــ هل يضيرك تنفيذ القانون يا فضيلة الشيخ..؟
ــ بل يضيرنى غضب سيادتك.. أرجوك يا فندم لا تغضب.
تنهد اللواء وعاد بظهره إلى الخلف ورشف من فنجان الشاى وقال:
ــ يبقى كل ما أقوله يجب أن تسمعه.
ــ تحت أمرك.
ـــ إياك أن تتصور فى أى لحظة أنك أصبحت قويا وأننى لن أقدر عليك.
ـــ يا فندم أنا دينى يأمرنى بطاعتك..
ـــ يبقى لما يكون عندك ملاحظات تقول لى قبل ما تتكلم فى الإعلام، مفهوم..؟
ــ مفهوم يا فندم.
اندفع الشيخ يقول كأنما يريد أن يستعيد الصفاء بينهما:
ــ يحزننى أن تشك سيادتك حتى الآن فى إخلاصى.
ـــ أفعالك هى الفيصل.
هكذا قال اللواء بهدوء، فاندفع الشيخ يقول:
ــ يا فندم، لقد كنت أطالب من البداية بدستور جديد للبلاد، كان هذا موقفى المعلن لكنى عندما علمت أن رغبة سيادتكم إجراء تعديلات على الدستور القديم غيرت موقفى تماما وساندت التعديلات بكل قوة.. أظن سيادتك تذكر ذلك.
هز اللواء رأسه، واستطرد الشيخ قائلا:
ــ لم أتخذ موقفا واحدا ضد سيادتك، من أجلك أنت خسرت أصدقاء كثيرين، حتى أثناء الأحداث الدامية المؤسفة لم أفتح فمى بكلمة ضد سيادتك.
ساد الصمت من جديد، وقال الشيخ بإلحاح:
ــ خلاص يا فندم. سيادتك راض عنى..؟!
قال اللواء:
ــ بشرط أن تسمع الكلام..
ــ تحت أمرك.
انتقل الشيخ واللواء إلى الحديث عن تفاصيل ما سوف يفعلانه معا فى المستقبل، كانا قد انتهيا من الطعام، واقترح اللواء أن يشربا القهوة فى المكتب، سارا عبر الردهة الطويلة حتى دخلا من الباب إلى قاعة المكتب الفخمة الفسيحة، جلس اللواء خلف المكتب المصنوع من خشب الآرو بينما جلس الشيخ فى المقعد الوثير المواجه له، كان اللواء قد أعد ورقة صغيرة بالموضوعات التى يريد أن يناقشها مع الشيخ.. على مدى ساعة تحدث اللواء والشيخ واتفقا تماما فى وجهات النظر..
انتهى اللقاء بطريقة ودية واصطحب اللواء الشيخ وظل واقفا يلوح له بيده حتى ابتعدت السيارة. كان اللواء يحس برضا كامل عن اتفاقه مع الشيخ وكانت لديه تقارير كثيرة يجب أن يطالعها فعاد إلى مكتبه وهرع إليه الفرّاش بفنجان القهوة المضبوط.. قرأ الأوراق وأجرى عدة اتصالات تليفونية مهمة وبعد نحو ساعة من العمل، عاد اللواء بظهره فى المقعد ووضع يديه خلف رأسه. كان يريد أن يستريح قليلا لكنه لما أغمض عينيه وفتحهما وجد شيئا غريبا على الجدار المواجه للمكتب، لمح تهويمات أو خيالات تتحرك على الجدار أمامه، أحس اللواء بانزعاج وحدق من جديد فرأى على الجدار أربعة أو خمسة وجوه لشبان فى العشرينيات من العمر، الغريب أن وجوه الشبان كانت هيئتها واحدة. كانوا يتطلعون إليه بعين واحدة، أما العين الأخرى فكانت فارغة مثقوبة تعكس فراغا أسود.
أحس سيادة اللواء برهبة وتأكد له أنه يعانى من هلوسة ما نتيجة للإرهاق، فكر أن هذه التهيؤات سوف تتلاشى بالتأكيد إذا نال قسطا من الراحة، أغمض عينيه لحظات ثم فتحهما من جديد لكن الوجوه لم تختف من فوق الجدار بل إنها ازدادت، الوجوه ذات العيون المفقودة انضمت إليها وجوه أخرى كلها مصابة بطلقات رصاص فى أعلى الرأس أو فى الرقبة.. كانت الوجوه كلها تحمل تعبيرا واحدا غامضا نهائيا، صارما ومخيفا.
غرق اللواء فى الحيرة وانحنى إلى الأمام وقد وضع رأسه بين يديه، بعد حوالى دقيقتين، رفع رأسه وهو يتفادى النظر إلى الجدار ثم أضاء نور الحجرة على آخره، كانت هذه محاولته الأخيرة، كان أمله أن يبدد النور الساطع الخيالات التى تطارده، راح قلبه يدق بقوة ثم فتح عينيه ونظر فى الضوء، كان الجدار قد صار مزدحما عن آخره بالوجوه، بالإضافة إلى الوجوه ذات العيون المثقوبة والوجوه التى تحمل طلقات الرصاص ظهرت وجوه أخرى كثيرة، وجوه مربدة متشنجة كأنها مختنقة بغازات سامة ووجوه ملامحها مشوهة تماما كأنما قد تم دهسها تحت عجلات سيارة.
هذه المرة أحس اللواء بأن الوجوه كلها تتزاحم عليه. تقترب منه وهى تحمل كلها فكرة واحدة، كأن لها جميعا إرادة معينة تصر على تنفيذها، مد اللواء يده ورن الجرس بعنف عدة مرات فهرع إليه سكرتيره الخاص، حاول اللواء أن يبدو متماسكا، تبادل معه حديثا عابرا وعندما نظر السكرتير نحو الجدار فهم اللواء حالاً أن الوجوه الرهيبة التى تطالعه لا يستطيع السكرتير أن يراها. عندئذ صرف اللواء السكرتير وأسرع بالخروج من المكتب وهو يقنع نفسه بالتفسير الوحيد الذى يستطيع تقبله.. استقر فى يقينه أنه مرهق وأن هذه الأشكال التى لاحت على جدار مكتبه ليست إلا ظلالا صورها له ذهنه المتعب.
بذل اللواء مجهودا مضنيا حتى سيطر على نفسه وعاش يوما عاديا بل إنه تعمد أن يأخذ زوجته وابنته الكبرى إلى النادى بعد الظهر حيت تناولوا العشاء.. عندما عاد إلى البيت دخلت زوجته لتنام بينما جلس هو وحيدا أمام التليفزيون فى الصالة الكبيرة التى تقع فى الدور الأول للقصر، كان يحس بقلق حقيقى، كان يخشى الدخول إلى مكتبه، لم يصدق نفسه عندما تطلع إلى الستارة الكبيرة أمامه فوجد نفس الوجوه، نفس العيون المثقوبة والوجوه المختنقة بالغاز والوجوه المقتولة بالرصاص والوجوه الممزقة المشوهة المدهوسة تحت العجلات.. أحس اللواء بفزع، ارتعد، كاد يصرخ، رفع كفيه ليغطى بهما عينيه حتى لا يرى كل هذه الوجوه المقتولة لكنه فوجئ بأن يديه ملطختان بالدم تماما.. ماذا حدث لسيادة اللواء..؟!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق