الاثنين، 14 نوفمبر 2011

جزءالرابع من /الفرقانُ بينَ أولياءِ الرَّحمَنِ وأولياءِ الشَّيْطانِ المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله/ يتبع اجزاء


- - - - - - - - - - - - - - - -
البابُ الثاني
نصُّ الرسالة

قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدِّمَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَسْتَعِينُهُ(1) وَنَسْتَغْفِرُهُ(2) وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا(3) وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللَّه(4) ُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ(5) وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ(6). وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ(7) أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا (8).
أَرْسَلَهُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ(9) بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا(10)
__________
(1) - أَيْ فِي حَمْده وَغَيْره وَهُوَ وَمَا بَعْده جُمَل مُسْتَأْنَفَة مُبَيِّنَة لِأَحْوَالِ الْحَامِدِينَ
(2) - أَيْ فِي تَقْصِير عِبَادَته وَتَأْخِير طَاعَته
(3) - : أَيْ مِنْ ظُهُور شُرُور أَخْلَاق نُفُوسنَا الرَّدِيَّة وَأَحْوَال طِبَاع أَهْوَائِنَا الدَّنِيَّة
(4) - قَالَ الْعُلَمَاء : لَفْظ الْهَدْي لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدهمَا : بِمَعْنَى الدَّلَالَة وَالْإِرْشَاد ، وَهُوَ الَّذِي يُضَاف إِلَى الرُّسُل وَالْقُرْآن وَالْعِبَاد ، وَقَالَ اللَّه تَعَالَى : { وَإِنَّك لَتَهْدِي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم } { إِنَّ هَذَا الْقُرْآن يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَم وَيُبَشِّر الْمُؤْمِنِينَ } وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَمَّا ثَمُود فَهَدَيْنَاهُمْ } أَيْ بَيَّنَّا لَهُمْ الطَّرِيق ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيل } وَ { هَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } وَالثَّانِي : بِمَعْنَى اللُّطْف وَالتَّوْفِيق وَالْعِصْمَة وَالتَّأْيِيد ، وَهُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ اللَّه بِهِ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { إِنَّك لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت وَلَكِنَّ اللَّه يَهْدِي مَنْ يَشَاء } . وَقَالَتْ الْقَدَرِيَّة : حَيْثُ جَاءَ الْهُدَى فَهُوَ لِلْبَيَانِ بِنَاء عَلَى أَصْلهمْ الْفَاسِد فِي إِنْكَار الْقَدَر ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ أَهْل الْحَقّ مُثْبِتِي الْقَدَر لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَللَّه يَدْعُو إِلَى دَار السَّلَام وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم } فَفَرَّقَ بَيْن الدُّعَاء وَالْهِدَايَة .شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 247)
(5) - أَيْ مِنْ شَيْطَان وَنَفْس وَغَيْرهمَا
(6) - أَيْ لَا مِنْ جِهَة الْعَقْل وَلَا مِنْ جِهَة النَّقْل وَلَا مِنْ وَلِيّ وَلَا نَبِيّ . قَالَ الطِّيبِيُّ : أَضَافَ الشَّرّ إِلَى الْأَنْفُس أَوَّلًا كَسْبًا ، وَالْإِضْلَال إِلَى اللَّه تَعَالَى ثَانِيًا خَلْقًا وَتَقْدِيرًا
(7) - سنن ابن ماجه(1967 ) صحيح
قلت : وبغير هاتين الشهادين لا يكون المرء مسلماً ، فلا بدَّ من النطق بهما حتى يدخل في الإسلام
(8) - من قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (28) سورة الفتح
وَاللهُ تَعَالى هُوَ الذَي أرْسَلَ رَسُولَهُ بالهُدَى ودَين الإِسْلامِ ، لِيَجْعَلَ الإِسْلامَ - وَهُوَ دِينُ الحَقِّ - ظَاهِراً عَلَى جَمِيعِ الأَدْيَانِ في الأَرْضِ ، وَقَدْ وَعَدَ رَسُولَهُ بِدُخُولِ المَسْجِدِ الحَرَامِ مَعَ أَصْحَابِهِ ، وَهُمْ آمِنُونَ ، فحَققَ اللهُ ذَلِكَ الوَعْدَ ، وَسَيُحَققُ وَعْدَهُ لِرَسُولِهِ بأنَّهُ تَعَالى سَيُظْهِرُ الإِسْلاَمَ عَلَى سَائِرِ الأَدْيَانِ ، وَهُوَ تَعَالى شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ أبداً .
(9) - عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِى وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِى وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ ». مسند أحمد (5233) وهو صحيح
(10) - لقوله تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} (46) سورة الأحزاب
يا أيها النبي إنَّا أرسلناك شاهدًا على أمتك بإبلاغهم الرسالة، ومبشرًا المؤمنين منهم بالرحمة والجنة، ونذيرًا للعصاة والمكذبين من النار، وداعيًا إلى توحيد الله وعبادته وحده بأمره إياك، وسراجًا منيرًا لمن استنار بك، فأمْرك ظاهر فيما جئتَ به من الحق كالشمس في إشراقها وإضاءتها، لا يجحدها إلا معاند.

، فَهَدَى بِهِ مِنْ الضَّلَالَةِ ،وَبَصَّرَ بِهِ مِنْ الْعَمَى(1) وَأَرْشَدَ بِهِ مِنْ الْغَيِّ(2)، وَفَتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا(3) وَقُلُوبًا غُلْفًا(4) وَفَرَقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ(5) . وَالسُّعَدَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ(6) وَالْأَشْقِيَاءِ أَهْلِ النَّار(7) وَبَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ(8) وَأَعْدَاءِ اللَّهِ(9).
منْ صفاتِ أولياءِ الرحمنِ
فَمَنْ شَهِدَ لَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ، وَمَنْ شَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ (10).
وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لِلَّهِ أَوْلِيَاءَ مِنْ النَّاسِ وَلِلشَّيْطَانِ أَوْلِيَاءَ، فَفَرَّقَ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، فَقَالَ تَعَالَى:{ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) } [يونس/62-65](11)
__________
(1) - المادي والمعنوي
(2) - مِنَ الغَيِّ - مِنَ الضَّلالِ وَالكُفْرِ .
(3) - التي لا تسمع ماديا ومعنويا
(4) - مُغَطَّاةٌ بِأَغْطِيَةٍ خِلْقِيَّةٍ فَلا تَعِي .
(5) - قال تعالى :{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} (20) سورة الحشر
لا يستوي أصحاب النار المعذَّبون، وأصحاب الجنة المنعَّمون، أصحاب الجنة هم الظافرون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه.
(6) - قال تعالى :{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (108) سورة هود
أَمَّا السُّعَدَاءُ الذِينَ اتَّبَعُوا الرُّسُلَ ، وَآمَنُوا بِاللهِ ، وَعَمِلُوا صَالِحاً ، فَيَصِيرُونَ إِلى الجَنَّةِ ، وَيَمْكُثُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبداً ، مَا دَامَتْ هُنَاكَ سَمَاوَاتٌ وَأَرْضٌ ، إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ .
(7) - قال تعالى :{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) سورة هود
أَمَّا الأَشْقِيَاءُ ، الذِينَ شَقُوا بِمَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنَ العَذَابِ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمِ السَّيِّئَةِ فِي الدُّنْيا ، فَيَصِيرُونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ ، وَتَضِيقُ صُدُورُهُمْ بِثِقْلِ العَذَابِ ، فَيُصْبِحُ تَنَفُّسُهُمْ زَفِيراً ، وَأَخْذُهُمُ النَّفَسَ شَهِيقاً .
وَيَبْقُونَ فِي النَّارِ خَالِدِينَ ، مَا دَامَتْ هُنَاكَ سَمَاوَاتٌ تُظِلُّ المَخْلُوقَاتِ ، وَأَرْضٌ يَقِفُونَ عَلَيها ، إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ ، إِذْ يُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ بِرَحْمَتِهِ العُصَاةَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ ، ثُمَّ يَمْتَنُّ عَلَى الآخَرِينَ فَيُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِقْدَارُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ ، وَهُوَ القَادِرُ والفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ .
(8) - قال تعالى : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (62) سورة يونس
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ ، وَهُمُ الذِينَ آمَنُوا وَاتَّقَوا وَأَخْلَصُوا العِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ ، وَالتَّوَكُلَ عَلَيْهِ ، لاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ مِمَّا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَهْوَالِ الآخِرَةِ ، وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا .
(9) - قال تعالى :{ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } (28) سورة فصلت
وَذَلِكَ الجَزَاءُ الشَّدِيدُ ، الذِي أَعَدَّهُ اللهُ لأَعْدَائِهِ ، هُوِ النَّارُ يُعَذَّبُونَ فِيهَا ، وَيَبْقَوْنَ فِي العَذَابِ خَالِدِينَ أَبَداً ، وَهِيَ جَزَاؤُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَجُحُودِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ ، وَاسْتِكْبَارِهِمْ عَنْ سَمَاعِهَا .
(10) - قال تعالى : {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (76) سورة النساء
(11) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ ، وَهُمُ الذِينَ آمَنُوا وَاتَّقَوا وَأَخْلَصُوا العِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ ، وَالتَّوَكُلَ عَلَيْهِ ، لاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ مِمَّا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَهْوَالِ الآخِرَةِ ، وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا .
وَيَقُولُ تَعَالَى مُعَرِّفاً ( أَوْلِيَاءَ اللهِ ) : بِأَنَّهُمُ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ ، وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَكَانُوا يَتَّقُونَ اللهَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ ، وَيُرَاقِبُونَهُ فِي سِرِّهِمْ وَعَلاَنِيَّتِهِمْ ، فَلاَ يَقُومُونَ إِلاَّ بِمَا يُرْضِي اللهَ رَبَّهُمْ .
وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُتَّقُونَ ، لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا بِالنَّصْرِ وَالعِزَّةِ ، وَبِإِلْهَامِهِم الحَقَّ وَالخَيْرَ ، وَبِالاسْتِخْلاَفِ فِي الأَرْضِ مَا أَقَامُوا شَرْعَ اللهِ ، وَنَصَرُوا دِينَهُ الحَقَّ ، وَأَعْلَوا كَلِمَتَهُ ( وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا العَبْدُ ، أَوْ تُرَى لَهُ ، وَهِيَ فِي الآخِرَةِ الجَنَّةُ " ) ( رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم ) . وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ لاَ يُبَدَّلُ ( لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ) ، وَلاَ يُغَيَّرُ وَلاَ يُخْلَفُ ، بَلْ مُقَرَّرٌ ثَابِتٌ كَائِنٌ لاَ مَحَالَةَ . وَهَذِهِ البُشْرَى بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ هِيَ الفَوْزُ العَظِيمُ .

، وَقَالَ تَعَالَى: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (257) سورة البقرة (1)،وَقَالَ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) [المائدة/51-56] }(2)
__________
(1) - وهذا يشمل ولايتهم لربهم، بأن تولوه فلا يبغون عنه بدلا ولا يشركون به أحدا، قد اتخذوه حبيبا ووليا، ووالوا أولياءه وعادوا أعداءه، فتولاهم بلطفه ومنَّ عليهم بإحسانه، فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل إلى نور الإيمان والطاعة والعلم، وكان جزاؤهم على هذا أن سلمهم من ظلمات القبر والحشر والقيامة إلى النعيم المقيم والراحة والفسحة والسرور { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } فتولوا الشيطان وحزبه، واتخذوه من دون الله وليا ووالوه وتركوا ولاية ربهم وسيدهم، فسلطهم عليهم عقوبة لهم فكانوا يؤزونهم إلى المعاصي أزا، ويزعجونهم إلى الشر إزعاجا، فيخرجونهم من نور الإيمان والعلم والطاعة إلى ظلمة الكفر والجهل والمعاصي، فكان جزاؤهم على ذلك أن حرموا الخيرات، وفاتهم النعيم والبهجة والمسرات، وكانوا من حزب الشيطان وأولياءه في دار الحسرة، فلهذا قال تعالى: { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .
(2) - يَنْهَى اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالاَةِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى ، وَاتِّخَاذِهِمْ حُلَفاءَ لَهُمْ عَلَى أَهْلِ الإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَيَقُولُ لَهُمْ إنَّ مَنْ يَتَّخِذُهُمْ نُصَرَاءَ وَحُلَفَاءَ وَأَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَرَسُولِهِ ، فَهُوَ مِنْهُمْ فِي التَّحَزُّبِ عَلى اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤْمِنِينَ . وَإنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ . وَمَنْ يَتَولَّى أَعْدَاءُ اللهِ فَهُوَ ظَالِمٌ ، وَاللهُ لاَ يَهْدِيهِ إلى الخَيْرِ . وَاليَهُودُ وَالنَّصَارَى بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ وَلِيٌّ وَلا نَصِيرٌ .
وَإذْ كَانَتْ وَلاَيَةُ أَهْلِ الكِتَابِ لاَ يَتْبَعُها إلاَّ الظَالِمُونَ فَإنَّكَ تَرَى الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ شَكٌّ وَنِفَاقٌ ( مَرَضٌ ) يُبَادِرُونَ إلَى مُوَالاَتِهِمْ ، وَإلَى مُوَادَّتِهِمْ فِي البَاطِنِ وَالظَّاهِرِ ، وَيَتَأَوَّلُونَ فِي مَوَدَّتِهِمْ وَفِي مُوَالاَتِهِمْ ، أنَّهُمْ يَخْشَونَ أَنْ يَقَعَ أَمْرٌ مِنْ ظَفَرِ الكَافِرِينَ بِالمُسْلِمِينَ ( تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ) فَتَكُونَ لَهُمْ أَيَادٍ عِنْدَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى ، فَيَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ حِينَئِذٍ . فَعَسَى اللهُ أَنْ يُتِمَّ أَمْرَهُ بِنَصْرِ المُسْلِمِينَ ، وَيُحَقِقَ لَهُمُ الفَتْحَ وَالغَلَبَةَ ، أَوْ يَتِمَّ أَمْرٌ مِنْ عِنْدِهِ كَفَرْضِ الجِزْيَةِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى ، فَيُصْبحَ الذِينَ وَالَوْا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنَ المُنَافِقِينَ نَادِمِينَ عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ مُوَالاَةِ هَؤُلاَءِ تَحَسُّباً لِمَا لَمْ يَقَعْ ، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ شَيْئاً ، وَلاَ دَفَعَ عَنْهُمْ مَحْذُوراً .
( هَذِهِ الآيَةُ وَالتِي قَبْلَهَا نَزَلَتَا فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ مِنَ الخَزْرَجِ ، فَقَدْ كَانَ لَهُمَا حُلَفَاءُ مِنَ اليَهُودِ ، فَجَاءَ عُبَادَةَ إلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ لِي مَوَالٍ مِنَ اليَهُودِ كَثيرُ عَدَدُهُمْ ، وَإني أَبْرَأ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْ وَلاَيَةِ يَهُودٍ ، وَأتَوَلَّى اللهَ وَرَسُولَهُ .وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ : إنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ وَلاَ أَبْرَأ مِنْ وَلاَيَةِ مَوَالِيَّ ) .
لَمَّا التَجَأَ هَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ إلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى يُوالُونَهُمْ وَيُوادُّونَهُمْ ، افْتَضَحَ أَمْرُهُمْ لِعِبَادِ اللهِ المُؤْمِنِينَ ، بَعْدَ أنْ كَانُوا يَتَسَتَّرُونَ ، لاَ يَدْرِي أحَدٌ كَيْفَ حَالُهُمْ ، فَتَعَجَّبَ المُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ ، كَيْفَ كَانُوا يَظْهَرُونَ أَنَّهُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ ، يُعَاضِدُونَهُمْ وَيُسَاعِدُونَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمِ اليَهُودِ ، فَلَمَّا جَدَّ الجِدُّ أَظْهَرُوا مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ مُوَالاَتِهِمْ وَمُمَالأَتِهِمْ عَلَى المُؤْمِنِينَ . وَلَمَّا اسْتَبَانَ حَالُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ قَالُوا : لَقَدْ هَلَكَتْ أَعْمَالُ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ مِنْ صَلاَةٍ وَصَوْمٍ وَزَكَاةٍ وَجِهَادٍ ، وَخَسِرُوا بِذَلِكَ مَا كَانُوا يَرْجُونَهُ مِنَ الثَّوَابِ .
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَيَقُولُ إنَّ الذِينَ يَرْتَدَّونَ عَنْ دِينِهِمْ مِنَ الإيِمَانِ إلى الكُفْرِ ، وَيَتَوَلَّوْنَ عَنْ نُصْرَةِ دِينِهِ ، وَإِقَامَةِ شَرِيعَتِهِ ، فَإنَّ اللهَ سَيَسْتَبْدِلُ بِهِمْ مَنْ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ ، وَأَشَدُّ مَنَعَةً ، وَأَقْوَمُ سَبِيلاً ، يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ، يَتَّصِفُونَ بِصِفَاتِ المُؤْمِنِينَ وَهِيَ : العِزَّةُ عَلَى الكَافِرِينَ ، وَالرَّحْمَةُ وَالتَّوَاضُعُ مَعَ المُؤْمِنِينَ ، يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلاَ يَرُدُّهُمْ رَادٌّ عَنْ إذاعَةِ أَمْرِ اللهِ ، وَإِقَامَةِ حُدُودِهِ ، وَقِتَالِ أَعْدَائِهِ ، يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرِ . وَمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاِت كَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْهِ كَبِيراً ، وَاللهُ وَاسِعُ الفَضْلِ ، عَلِيمٌ بِمَنْ يِسْتَحِقُّ ذَلِكَ فَيُعْطِيهِ ، مِمَّنْ لاَ يَسْتَحِقُّهُ فَيَحْرِمُهُ إيَّاهُ . ( وَقِيلَ إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ، فَقَدْ عَلِمَ اللهُ أنَّ النَّاسَ سَيَرْتَدُّونَ عَنِ الإِسْلاَمِ ، وَأَنَّ عُصْبَةً مِنَ المُؤْمِنِينَ ، مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ، سَيَقُومُونَ بِمُحَارَبَةِ المُرْتَدِّينَ ، وَأَنَّهُمْ سَيَثْبُتُونَ فِي حَرْبِهِمْ حَتَّى يُتِمُّ اللهُ نَصْرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) .
يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى مُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ ، الذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ ، وَيُسَاعِدُونَ المُحْتَاجِينَ مِنَ الضُعَفَاءِ وَالمَسَاكِينِ ، وَهُمْ دَائِمُونَ الرُّكُوعِ للهِ . ( نَزَلْت هَذِهِ الآيَةُ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ حِينَ بَرِئ مِنْ مُوَالاةِ اليَهُودِ ، وَرَضِيَ بِمُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ ) . وَكُلُّ مَنْ رَضِي بِمُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤمِنِينَ هُوَ مُفْلِحٌ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ، وَهُوَ مَنْصُورٌ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ، لأنَّهُ يَكُونُ فَِي حِزْبِ اللهِ ، وَحِزْبِ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ ، وَلاَ يُغْلَبُ مَنْ يَتَوَلاَّهُمُ اللهُ .

، وَقَالَ تَعَالَى: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا}(1) (44) سورة الكهف.
صِفاتُ أولياءِ الشيطانِ
وَذَكَرَ " أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ " فَقَالَ تَعَالَى:{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)(2)
__________
(1) - وَفِي مِثْلِ هذِهِ الحَالِ مِنَ الشَّدَائِد وَالمِحَنِ ، تَكُونُ المُوَالاَةُ ، وَتَكُونُ النُّصْرَةُ للهِ وَحْدَهُ . وَفِي الشَّدَائِدِ يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى اللهِ تَعَالَى ، يُعْلِنُونَ خُضُوعَهُمْ وَاعْتِرَافَهُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ ، فَهُوَ خَيْرُ مَنْ أَثَابَ ، وَخَيْرُ مَنْ جَازَى . وَالأَعْمَالُ التِي تَكُونُ خَالِصَةً للهِ عَزَّ وَجَلَّ ، تَكُونُ عَاقِبَتُهَا خَيْراً وَرَشَداً لِفَاعِلِيهَا
(2) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَعِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، إِذَا أَرَادُوا قِرَاءَةَ القُرْآنِ .
مَنْ عَمِلَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَقَامَ بِمَا فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللهِ ، مُصَدِّقٌ كُتُبَهُ وَرُسُلَهُ ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَعِدُهُ بِأَنْ يُحْيِيَهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ، تَصْحَبُهَا القَنَاعَةُ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَهُ ، وَالرِّضَا بِمَا قَدَّرَهُ اللهُ وَقَضَاهُ ، إِذْ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا حَصَلَ عَلَيْهِ مِنْ رِزْقٍ إِنَّمَا حَصَلَ لَهُ بِتَدْبِيرِ اللهِ تَعَالَى وَقِسْمَتِهِ ، وَاللهُ مُحْسِنٌ كَرِيمٌ ، لاَ يَفْعَلُ إِلاَّ مَا فِيهِ المَصْلَحَةُ ، وَفِي الآخِرَةِ يَجْزِيهِ اللهُ الجَزَءَ الأَوْفَى ، وَيُثِيبَهُ أَحْسَنَ الثَّوَابِ ، جَزَاءَ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ ، وَمَا تَحَلَّى بِهِ مِنْ إِيمَاٍن .
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَعِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، إِذَا أَرَادُوا قِرَاءَةَ القُرْآنِ .
وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى : أَنَّ الشَّيْطَانَ لاَ سُلْطَةَ لَهُ وَلاَ سُلْطَانَ عَلَى المُؤْمِنِينَ المُتَوَّكِلِينَ عَلَى اللهِ ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى ارْتِكَابِ ذَنْبٍ لاَ يَتُوبُونَ مِنْهُ .
إِنَّمَا تَسَلُّطُهُ بِالغَوَايَةِ وَالضَّلاَلَةِ يَكُونُ عَلَى الذِينَ يَجْعَلُونَهُ نَصِيراً فَيُحِبُّونَهُ وَيُطِيعُونَهُ ، وَيَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَتِهِ ، وَالذِينَ هُمْ بِسَبَبِ إِغْوَائِهِ يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ .

[النحل/98-101] }، وَقَالَ تَعَالَى :{ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) }(1) [النساء/76]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} (2)(50) سورة الكهف ، وَقَالَ تَعَالَى :{ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)(3) [النساء/119-121] } . وقال تَعَالَى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)(4)
__________
(1) - الذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ إِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللهِ ، وَنَشْرِ دِينِهِ ، لاَ يَبْتَغُونَ غَيْرَ رِضْوَانِ اللهِ . أمَّا الذِينَ كَفَرُوا ، فَإِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ ( الطَّاغُوتِ ) ، الذِينَ يُزَيِّنُ لَهُمُ الكُفْرَ ، وَيُمَنِّيهِمُ النَّصْرَ . وَكَيْدُ الشَّيْطَانِ ضَعيفٌ ، وَهُوَ لاَ يَسْتَطِيعُ نَصْرَ أَوْلِيَائِهِ . أمَّا أَوْلِيَاءُ اللهِ فَهُمُ الأَعِزَّةُ ، لأنَّ اللهَ حَامِيهِمْ وَنَاصِرُهُمْ وَمُعِزُّهُمْ ، وَلِذَلِكَ فَعَلَى المُؤْمِنِينَ ، أَوْلِيَاءِ اللهِ ، أنْ لاَ يَخَافُوا أَعْدَاءَهُمُ الكُفَّارَ ، لأنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ .
(2) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى بَنِي آدَمَ إِلَى عَدَاوَةِ إِبْلِيسَ لَهُمْ ، وَلأَبِيهِمْ آدَمَ ، قَبْلَهُمْ ، وَيُقَرِّعُهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ إِبْلِيسَ ، وَمُخَالَفَةِ الخَالِقِ . وَيَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ : اذْكُرْ لِقَوْمِكَ إِذْ قَالَ اللهُ لِلْمَلاَئِكَةِ : اسْجُدُوا لآدَمَ ، اعْتِرَافاً بِفَضْلِهِ ، وَاعْتِذَاراً عَمَّا قَالُوهُ بِحَقِّهِ : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء } . فَامْتَثَلُوا جَمِيعاً لأَمْرِ رَبِّهِمِ الكَرِيمِ ، إِلاَّ إِبْلِيسَ ، الَّذِي كَانَ مِنَ الجِنِّ ، فَامْتَنَعَ عَنِ السُّجُودِ ، وَخَرَجَ عَنْ أَمْرِ اللهِ ( فَسَقَ ) ، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى : إِنَّ اللهَ خَلَقَهُ مِنْ نَارٍ ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَنْ يَسْجُدَ لِمَخْلُوقٍ خَلَقَهُ اللهُ مِنَ الطِّين ، وَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ آدَمَ . فَكَيْفَ تَتَّخِذُونَ ، يَا بَنِي آدَمَ ، هَذا العَدُوَّ لَكُمْ ، هُوَ وَذُرِّيَتَهُ ، أَوْليَاءَ لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَتُطِيعُونَ أَوَامِرَهُمْ ، وَهُمْ عَلَى مَا عَرَفْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ مِنَ العَدَاوَةِ لآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ ، فَبِئْسَ مَا فَعَلْتُمْ { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } .
(3) - وَمَنْ يَتَّخِذَ الشَّيْطَانَ وَلِياً لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ يَخْسَرِ الدُّنيا وَالآخِرَةِ وَتِلْكَ خَسَارَةٌ لاَ جَبْرَ لَهَا ، وَلاَ اسْتِدْرَاكَ لِفائِتِهَا .
يُخَوِّفُ الشَّيْطَانُ النَّاسَ مِنَ الفَقْرِ إذَا هُمْ أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَيُوَسْوِسُ لَهُمْ بِأَنَّ أَمْوَالَهُمُ تَنْفَدُ أَوْ تَنْقُصُ ، وَيُصْبحُونَ فُقَرَاءَ أَذِلاَّءَ ، وَيَعِدُهُمْ بِالغِنَى وَالثَّرْوَةِ حِينَ يُغْرِيهِمْ بِلَعبِ القِمَارِ وَيُمَنِّيهِمْ بِأنَّهُمُ الفَائِزُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَقَدْ كَذَبَ وَافْتَرَى فِي ذَلِكَ فَوُعُودُهُ بَاطِلَةٌ .
وَهَؤُلاءِ المُسْتَحْسِنُونَ لِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ الشَّيْطَانُ ، وَمَنَّاهُمْ بِهِ ، سَيَكُونُ مَأْوَاهُمْ وَمَصِيرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي جَهَنَّمَ ، وَلَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً وَلاَ خَلاَصاً .
(4) - وَخَافَتْ قُرَيشٌ أنْ يَجْمَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أهْلَ المَدِينَةِ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَرِكُوا فِي المَعْرَكَةِ ، وَيَخْرُجَ وَرَاءَهُمْ ، فَأَرْسَلُوا إلَيهِ بَعْضَ نَاقِلِي الأخْبَارِ لِيُهَوِّلُوا عَلَيهِ ، لِيَكُفَّ عَنِ اللِّحَاقِ بِهِمْ ، وَقَالَ نَاقِلُوا الأَخْبَار لِلْمُسْلِمِينَ : إنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ ( النَّاسَ ) قَدْ حَشَدُوا لَكُمْ ، وَجَمَعُوا قُوَاهُمْ ، فَاحْذَرُوهُمْ ، وَاخْشَوْهُمْ ، فَلَمْ يَزِدْ هَذَا القَوْلُ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ - الذِينَ اسْتَجَابُوا لِلْرَسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ وَخَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُلَبِّينَ دَعْوَتَهُ ، رَاغِبِينَ فِي نَيْلِ رِضْوَانِ رَبِّهِمْ وَنَصْرِهِ - إلاَّ إِيمَاناً بِرَبِهِمْ ، وَثِقَةً بِوَعْدِهِ وَنَصْرِهِ وَأجْرِهِ ، وَرَدُّوا عَلَى مُخَاطِبِيِهِمْ قَائِلِينَ : إِنَّهُمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ ، وَهُوَ حَسْبُهُمْ .
فَلَمَّا تَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ كَفَاهُمُ اللهُ مَا أَهَمَّهُمْ وَأَغَمَّهُمْ ، وَرَدَّ عَنْهُمْ بَأسَ النَّاسِ ( الكَافِرِينَ ) ، فَرَجَعُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوْءٌ ، وَقَدْ فَازُوا بِرِضْوَانِ اللهِ ، وَعَظِيمِ فَضْلِهِ ، وَاللهُ وَاسِعُ الفَضْلِ
( خَرَجَ المُسْلِمُونَ مَعَ الرَّسُولِ إلى مَوْقِعٍ يُعْرَفُ بِحَمْراءِ الأَسَدِ ، وَأرْسَلَ إلى المُشْرِكِينَ رُسُلاً يُحَذِّرُونَهُمْ ، فَخَافَتْ قُرَيْشٌ وَتَابَعَتْ سَيْرَهَا نَحْوَ مَكَّةَ ) .
وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ وَاعَدَ َرسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَدْراً مِنَ العَامِ القَابِلِ ، فَخَرَجَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُسْلِمِينَ إلَى بَدْرٍ فِي المَوْعِدِ المُحَدَّدِ ، وَتَخَلَّفَتْ قُرَيْشٌ ، فَاشْتَرَى رَسُولَ اللهِ عِيْراً مَرَّتْ بِهِمْ فِي المَوْسِمِ ، ثُمَّ بَاعَهَا فَرَبِحَ ، وَوَزَّعَ الرِّبْحَ عَلَى أَصْحَابِهِ ، فَانْقَلَبُوا مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الثَّانِيَةِ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ، وَنَالُوا رِضْوَانَ اللهِ ، وَحَصَلُوا عَلَى فَضْلِهِ فِي الرِّبْحِ . وَاللهُ عَظِيمُ الفَضْلِ عَلَى عِبَادِهِ .
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ ، أنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الذِي يُخَوِّفُكُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ المُشْرِكِينَ ، وَيُوهِمُكُمْ أَنَّهُمْ ذَوُو بَأْسٍ وَقُوَّةٍ ، وَهُوَ الذِي قَالَ لَكُمْ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ، فَلاَ تَخَافُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ ، وَالْجَؤُوا إِلَيهِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقّاً ، فَإِنَّهُ كَافِيكُمْ إِيَّاهُمْ ، وَنَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ . وَخَافُوهُ هُوَ فَهُوَ القَادِرُ عَلَى النَّصْرِ وَعَلَى الخُذْلاَنِ ، وَعَلَى الضَّرِّ وَالنَّفْعِ .

} [آل عمران/173-175]، وَقَالَ تَعَالَى :{ يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)(1) } [الأعراف/27-30] ، وَقَالَ تَعَالَى: { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}(2)
__________
(1) - يُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ مِنْ إِبْلِيسَ وَجَمَاعَتِهِ ( قَبِيلِهِ ) ، وَيُذَكِّرُهُمْ بِعَدَاوَتِهِ القَدِيمَةِ لآدَمَ وَزَوْجِهِ ، حِينَمَا سَعَى فِي إِخْرَاجِهِمَا مِنَ الجَنَّةِ ، دَارِ السَّعَادَةِ وَالهَنَاءِ ، إلَى الأَرْضِ دَارِ الشَّقَاءِ ، وَتَسَبَّبَ فِي هَتْكِ سِتْرِهِمَا ، وَكَشْفِ عَوْرَاتِهِمَا ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَسْتُورَةً عَنْهُمَا ، وَلِذَلِكَ فَإنَّ بَنِي آدَمَ عَلَيْهِمْ ألاَّ يُمَكِّنُوا إِبْلِيسَ مِنْ خِدَاعِهِمْ ، وَإِيقَاعِهِمْ فِي المَعَاصِي بِوَسْوَسَتِهِ ، فَإِبْلِيسُ يَرَى البَشَرَ فِي حِينِ أَنَّهُمْ لاَ يَرَوْنَهُ هُمْ . وَالشَّيَاطِينُ هُمْ أَوْلِيَاءُ وَأَخِلاَّءُ وَأَصْحَابٌ لِلْكُفَّارِ الذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ مِنَ الإِنْسِ ، لاسْتِعْدَادِهِمْ لِتَقَبُّلِ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ وَإِغْوَائِهِمْ . أَمَّا المُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ .
وَإِذَا فَعَلَ المُكَذِّبُونَ أَمْراً بَالِغَ النُّكْرِ ، كَالشِّرْكِ ، وَالطَّوَافِ ، بِالبَيْتِ عُرَاةً ، اعْتَذَرُوا عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا : إنَّهُمْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ، وَهُمْ يَسِيرُونَ عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدِينَ بِهِمْ ، وَاللهُ أَمَرَهُمْ بِهِ ، وَرَضِيَ لَهُمْ عَنْ فِعْلِهِ ، إِذْ أَقَرَّهُمْ عَلَيهِ .
وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مُنْكِراً مَا يَفْتَرُونَ : إنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِهذِهِ الأُمُورِ المُنْكَرَةِ ، فَكَيْفَ يَنْسُبُونَ إِلَيهِ تَعَالَى مَا لاَ يَجِدُونَ دَلِيلاً عَلَى صِحَّةِ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ؟
وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ : أَمَرَ رَبِّي بِالاسْتِقَامَةِ وَالعَدْلِ فِي كُلِّ الأُمُورِ ( بِالقِسْطِ ) ، فَأَقْسِطُوا وَتَوَجَّهُوا إلَى اللهِ بِخُشُوعٍ وَحُضُورِ قَلْبٍ ، عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ تَعْبُدُونَهُ فِيهِ ، وَأَخْلِصُوا فِي عِبَادَتِهِ ، وَكَمَا خَلَقَ اللهُ النَّاسَ وَلَمْ يَكُونُوا شَيْئاً ، كَذَلِكَ هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْشُرَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَيُعِيدَهُمْ إلى الحَيَاةِ ، ثُمَّ يَجْمَعُهُمْ وَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ .
وَاللهُ لاَ يَتَقَبَّلُ العَمَلَ مِنَ العَبْدِ إلاَّ إِذَا كَانَ مُسْتَجْمِعاً أَمْرَينِ :
- الصَّوابَ وَمُوَافَقَةِ الشَّرِيعَةِ .
- وَأَنْ يَكُونَ خَالِصاً لِوَجْهِ اللهِ بَعِيداً عَنِ الشِّرْكِ .
وَكَمَا بَدَأَ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ خَلْقَاً وَتَكْوِيناً بِقُدْرَتِهِ ، كَذَلِكَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرِيقَيْنِ :
أ - فَرِيقاً هَدَاهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ فَاهْتَدَى ، وَأَقَامَ وَجْهَهُ للهِ مُخْلِصاً فِي عِبَادَتِهِ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً .
ب - وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةَ لاتِّبَاعِهِمْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الطَّاعَةِ لِرَبِّهِمْ ، وَإِنَّهُمْ حِينَ أَطَاعُوا الشَّيَاطِينَ فِيمَا زَيَّنُوهُ لَهُمْ مِنَ الفَوَاحِشِ وَالمُنْكَرَاتِ ، أَصْبَحُوا وَكَأَنَّهُمْ وَلَّوْهُمْ أُمُورَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ الذِي يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ، وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ ، فَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَتْهُمْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ .
(2) - فَلاَ تَأْكُلُوا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ مِمَّا مَاتَ فَلَمْ تَذْبَحُوهُ ، وَلاَ مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ، مِمَّا ذَبَحَهُ المُشْرِكُونَ لأَوْثَانِهِمْ ، فَإِنَّ أَكْلَ ذَلِكَ فِسْقٌ وَمَعْصِيَةٌ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ حَنْبَلٍ : إنَّ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ عَمْداً أَوْ سَهْواً يَجْعَلُ الذَّبِيحَةَ غَيْرَ حَلاَلٍ . وَقَالاَ الذَّبْحُ بِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ فِسْقٌ ، وَكَذَلِكَ الأَكْلُ مِنَ الذَّبِيحَةِ التِي لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهَا فِسْقٌ .
- وَقَالَ الشَّافِعِي : لاَ تَشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ ، فَإِنْ تُرِكَتْ عَمْداً أَوْ سَهْواً فَلاَ ضَرَرَ فِي ذَلِكَ ، وَيَحِلّ الأَكْلُ مِنَ الذَّبِيحَةِ . وَقَالَ إنَّ المُحَرَّمَ هُوَ مَا ذُبِحَ لِغَيرِ اللهِ ، كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ قُرَيْشٍ مِنْ نَحْرِ الذَّبَائِحِ لِلأَوْثَانِ .
- وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ نِسْيَاناً لاَ يَضُرُّ ، أَمَّا تَرْكُها عَمْداً فَيَجْعَلُها غَيْرَ حَلاَلٍ .
وَإِنَّ شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ ليُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ بِالوَسْوَسَةِ بِمَا يُجَادِلُونَكُمْ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ فَقَدْ جَادَلَتِ اليَهُودُ النَّبِيَّ : فَقَالُوا نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلْنَا ، وَلاَ نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلَ اللهُ ( أَيْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفهِ ) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةُ ، أَرْسَلَتْ فَارِسُ إلَى قُرَيْشٍ أَنْ خَاصِمُوا مُحَمَّداً ، وَقُولُوا لَهُ : فَمَا تَذْبَحُ أَنْتَ بِسِكِينٍ فَهُوَ حَلاَلٌ ، وَمَا ذَبَحَ اللهُ بِشَمْشِيرٍ مِنْ ذَهَبِ ( أَيْ المَيْتَةَ ) فَهُوَ حَرَامٌ؟
وَسَمِعَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ هَذَا القَوْلَ فَوَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهُ : ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ . . . ) ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى : فَإِنْ أَطَعْتُمُ المُشْرِكِينَ فِي أَكْلِ المَيْتَةِ فَإِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ، لأَنَّكُمْ تَكُونُونَ قَدْ عَدَلْتُمْ عَنْ شَرْعِ اللهِ وَأَمْرِهِ ، إلَى قَوْلِ غَيْرِهِ ، فَقَدَّمْتُمْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ ، وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ .

(121) سورة الأنعام، وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (1)(45) سورة مريم ،وَقَالَ تَعَالَى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) }(2)
__________
(1) - وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ يَا أَبَتِ أَنْ تَسْتَمِرَّ فِي شِرْكِكَ وَفِي تَعَنُّتِكَ ، وَاسْتِكْبَارِكَ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ ، فَتَكُونَ قَرِيناً وَتَابِعاً لِلشَّيْطَانِ فِي النَّارِ .
(2) - هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ ، وَكَانَ حَاطِبٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ ، هَاجَرَ مِنْ مَِكَّةَ ، وَتَرَكَ فِيهَا مَالَهُ وَوَلَدَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ قُرَيِشٍ . فَلَمَا أَرَادَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فَتَحَ مَكَّةَ دَعَا رَبَّهُ اللهَ أَنْ يُعْمِيَ الأَخْبَارَ عَنْ قُرَيشٍ ، حَتَّى يَأْخْذَهُمْ عَلَى حِينِ غِرَّةٍ ، فَكَتَبَ حَاطِبٌ كِتَاباً إِلَى قُرَيشٍ يُعَرِّفُهُمْ بِعَزْمِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلَى غَزْوِهِمْ ، وَأَرْسَلَهُ مَعَ امْرَأَةٍ لِيَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَداً . وَأَعْلَمَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِالكِتَابِ ، فَأَرْسَلَ الرَّسُولُ عَلِيّاً وَالزُّبَيْرَ ، وَأَمَرَهُمَا بِالذَّهَابِ إِلَى رَوْضَةِ خَاخٍ لِيَأَتِيَاهُ بِالكِتَابِ مِنَ المَرْأَةِ ، فَلَمَّا جَاءَاهَا طَلَبا مِنْهَا الكِتَابَ فأَنْكَرَتْهُ ، فَهَدَّدَاهَا بِتَجْرِيدِهَا مِنْ ثِيَابِهَا لِتَفْتِيشِهَا ، فَأَخْرَجَتِ الكِتَابَ مِنْ ضَفَائِرِ شَعْرِهَا .
وَسَأَلَ الرَّسُولُ حَاطِباً عَنِ الكِتَابِ فَاعْتَرَفَ وَقَالَ لِلرَّسُولُ إِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كُفْراً ، وَلاَ ارْتِدَاداً عَنِ الإِسْلاَمِ ، وإِنَّمَا لِيَتَّخِذَ بِهِ يَداً عِنْدَ قُرَيشٍ يَحْمِي بِهَا أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ وَمَالَهُ . فَقَالَ الرَّسُولُ للصَّحَابَةِ إِنَّهُ صَدَقَكُمْ . وَقَالَ عُمْرُ بِنُ الخَطَّابِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنْقَ هَذَا المُنَافِقِ . فَقَالَ الرَّسُولُ : إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ .
وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ فِي هَذِهِ الآيَةِ بِأَنْ لاَ يَتَّخِذَوا الكُفَّارَ أَعْواناً وَأَنْصَاراً لَهُمْ يُبَلِّغُونَهُمْ أَخْبَارَ الرَّسُولِ التِي لاَ ينْبَغِي لأَعْدَائِهِ أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَيهَا ، وَقَدْ كَفَرَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارُ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِكِتَابِهِ ، فَكَيْفَ بِكُمْ بَعْدَ هَذَا تَتَّخِذُونَهُمْ أَنْصَاراً تُسِرُّونَ إِليهِمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ ، وَيُضُرُّ الرَّسُولَ والمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ أَخْرَجُوا الرَّسُولَ وَأَصْحَابَهُ مِنْ بَينِ أَظْهَرِهِمْ كُرْهاً بِالتَّوْحِيدِ ، وَإِخْلاَصِ العِبَادَةِ للهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَنْبٌ يُؤَاخَذُونَ عَلَيهِ غَيْرُ ذَلِكَ .
فَإِنْ كُنْتُمْ ، يَا أَيَّهُا المُؤْمِنُونَ ، قَدْ خَرَجْتُمْ مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِي ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ، فَلاَ تُوَلُوا أَعْدَائِي ، وَمَنْ يَفْعَلْ هَذِهِ المُوَالاَةَ ، وَيُفْشِ سِرَّ الرَّسُول لأَعْدَائِهِ ، فَقَدْ حَادَ عَنْ قَصْدِ الطَّرِيقِ المُوصِلَةِ إِلَى الجَنَّةِ .
إِنْ ظَفِرَ بِكُمْ هَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ ، الذِينَ تُلْقَونَ إِليهِم بِالمَوَدَّةِ ، يُظْهِرُوا لَكُمْ عَدَاوَتَهُمْ ، وَيَمُدُّوا إِليكُمْ أَيدِيَهُمْ وأَلْسِنَتَهُمْ بِمَا يَسُوؤُكُمْ : يُقَاتِلُونَكُمْ وَيَشْتَمُونَكُمْ وَيَتَمَنَّونَ لَو تَكْفرُونَ بِرَبِّكُمْ فَتَكُونُوا عَلَى مِثْلِ دِينِهِمْ ، فَكَيْفَ تُسِرُّونَ إِلَى هَؤُلاَءِ بِالمَوَدَّةِ وَهَذِهِ هِيَ حَالُهُمْ؟ . .
وََيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ الذِي اعْتَذَرَ بِرَغْبَتِهِ فِي المُحَافَظَةِ عَلَى أَوْلاَدِهِ وَأَمْوَالِهِ فِي مَكَّةَ ، بِأَنَّ الأَقَارِبَ وَالأَوْلاَدَ ، الذِينَ تُوَالُونَ الكُفَّارَ مِنْ أَجْلِهِمْ ، لَنْ يَنْفَعُوكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَلَنْ يَدْفَعُوا عَنْكُمْ شَيئاً مِنْ عَذَابِ اللهِ ، إِنْ عَصَيْتُمُوهُ فِي الدُّنْيَا ، لأَنَّهُ سَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَقَارِبِهِمْ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ العَصِيبِ . وَيَذْهَلُ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَّنْ سِوَاهُ ، وَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ شَأْنٌ يُغَنِيهِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُهُ العِبَادُ .
أَفَلاَ تَأَسَّى هَؤُلاَءِ الذِينَ يُوَادُّونَ الكَافِرِينَ بِأَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ ، وَأَصْحَابِهِ المُؤْمِنينَ ، حِينَ قَالُوا لِقَوْمِهِم الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ : إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنَ الآلِهَةِ وَالأَنْدَادِ ، وَجََحَدْنَا ما أَنْتُمْ عَلَيهِ مِنَ الكُفْرِ ، وَأَنْكَرْنَا عِبَادَتَكُمْ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ حِجَارَةٍ وَأَوْثَانٍ وَأَصْنَامٍ ، وَقَدْ أَعْلَنَّا الحَرْبَ عَلَيْكُمْ ، فَلاَ هَوَادَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ، وَسَنَبْقَى عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تُؤمِنُوا بِاللهِ وَتُوَحِّدُوهُ ، وَتَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَلاَ صَاحِبَةَ وَلاَ وَلَدَ ، وَتَتَخَلَّصُوا مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَالأَوْثَانِ .
وَلَكُمْ فِي أَبْيكُمْ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تَتَأَسَّوْنَ بِهَا ، وَتَعْتَبِرُونَ بِهَا فِي مَسْلَكِكُمْ وَعِبَادَتِكُمْ ، وَلاَ تَسْتَثْنُوا مِنْ تَصَرُّفَاتِ إِبْرَاهِيمَ التِي تَقْتَدُونَ بِهَا إِلاَّ اسْتْغْفَارَهُ لأَبِيهِ الذِي بَقِيَ مُقِيماً عَلَى الكُفْرِ ، فَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ : إِنَّهُ سَيَسْتَغْفِرُ لَهُ اللهَ ، وَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفَعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فَالأَمْرُ مَرْدُودٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَ . وَلَكِنَّ هَذَا القَوْلَ صَدَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمِ حِينَمَا وَعَدَهُ أَبُوهُ بِأَنَّهُ سَيُؤْمِنُ بِاللهِ ، وَيَتْبَعُهُ فِيمَا يَعْبُدُ . فَلَمَّا تَبَيَّنَ إِبْرَاهِيمُ أَنَّ عَدُوٌ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ .
وَحِينَمَا فَارَقَ إِبْرَاهِيمُ وَالمُؤْمِنُونُ مَعَهُ قَوْمَهُمْ لَجَؤُوا إِلَى اللهِ مُتَضَرِّعِينَ قَائِلِينَ : رَبَّنَا إِنَّنَا اعْتَمَدْنَا عَلَيْكَ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا ( تَوَكَّلْنَا ) ، وَرَجَعْنَا إِلَيكَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذُنُوبِنَا ، وَإِلَيكَ مَصِيرُنَا حِينَ تَبْعَثُنَا مِنْ قُبُورِنَا لِلْعََرْضِ وَالحِسَابِ . فَاقْتَدُوا بِهِمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ ، وَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ .
رَبَّنَا وَلاَ تُسَلِّطْ قَوْمَنَا الكَافِرِينَ عَلَينَا ، وَلاَ تَجْعَلْهُمْ يَظْهَرُونَ عَلَينَا ، فَيَعْمَلُوا عَلَى فِتْنَتِنَا عَنْ دِينِنَا بِالعَذَابِ وَالنَّكَالِ . وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا ظَهَرُوا عَلَيْنَا لأَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ فِيمَا يَقُولُونَ ، وَفِيمَا يَعْبُدُونَ ، رَبَّنَا واسْتُرْ ذُنُوبَنَا عَنْ غَيرِكَ ، وَاعْفُ عَنَّا فِيمَا بَيْنَنَا وَبَينَكَ ، إِنَّكَ يَا رَبِّ أَنْتَ القَوِيُّ العَزِيزُ الذِي لاَ يُضَامُ ، الحَكِيمُ فِيمَا تَشْرَعُ ، وَفِيمَا تَقْضِي .

[الممتحنة/1-5] .
وجوبُ التفريق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان(1)
فَصْلٌ- وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ النَّاسَ فِيهِمْ " أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ " فَيَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كَمَا فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُمَا، فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)(2)
__________
(1) - وفي فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ - (ج 1 / ص 98):
وإذا عرف أن الناس فيهم أَولياءُ الرحمن وأَولياءُ الشيطانِ، فيجب أَن يفرق بين هؤلاءِ وهؤلاءِ كما فرق الله ورسوله بينهما، فأَوْلياءُ الله هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ- الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) فكل من ادعى الولاية فلابد من سبر احواله ومعرفة ما هو عليه فإن كان متصفًا بما وصف الله به أَولياءَه المؤمنين مجانبًا لحزب الشيطان وأَوليائه الضالين المضلين وكان مقيمًا لشعائر الدين من تحقيق التوحيد واقامة الصلاة في الجمع والجماعات وكان من الدعاة إلى الله واتصف بما عليه سلف الأمة وأَئمتها هديًا وسمتًا وخلقًا وحالا ومقاما وصلحت نيته بذلك فهذا يرجى أَن يكون من أَولياءِ الله المتقين الذين قال الله فيهم (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ- الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) فكل من كان مؤمنًا تقيًا كان لله وليًا، ومن ادعى الولاية بدون ذلك فهو مدعى.
والدعاوي ما لم يقيموا عليها بينات ابناؤها ادعياءُ
فتاوى اللجنة الدائمة - 1 - (ج 1 / ص 638)
فالفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: أن أولياء الرحمن:
هم المؤمنون المتقون، كما قال تعالى: { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } (1) { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } (2) وأولياء الشيطان: هم المعادون لله التاركون للعمل بشرعه.
وأفضل أولياء الله هم رسله، والله جل وعلا يجعل على يد رسله المعجزات والكرامات أو يجعل على يد أوليائه الكرامات، وما يقع على يد أولياء الشيطان فهو من الأحوال الشيطانية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وإن كان اسم المعجزة يعم كل خارق للعادة في اللغة، وعرف الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد بن حنبل وغيره، ويسمونها: الآيات، لكن كثيرا من المتأخرين يفرق في اللفظ بينهما فيجعل المعجزة للنبي والكرامة للولي، وجماعهما الأمر الخارق للعادة). انتهى.
(2) - الأولياء : جمع ولي مأخوذ من الولي بمعنى القرب والدنو ، يقال : تباعد فلان من عبد ولي أى : بعد قرب .
والمراد بهم : أولئك المؤمنون الصادقون الذى صلحت أعمالهم ، وحسنت بالله - تعالى - صلتهم ، فصاروا يقولون ويفعلون كل ما يحبه ، ويجتنبون كل ما يكرهه .
قال الفخر الرازي : " ظهر فى علم الاشتقاق أن تركيب الواو واللام والياء يدل على معنى القرب ، فولى كل شيء هو الذى يكون قريبا منه .
والقرب من الله إنما يتم إذا كان القلب مستغرقاً فى نور معرفته ، فإن رأى رأى دلائل قدرته ، وإن سمع سمع آيات وحدانيته ، وإن نطق نطق بالثناء عليه ، وِإن تحرك تحرك فى خدمته ، وإن اجتهد اجتهد فى طاعته ، فهنالك يكون فى غاية القرب من الله - تعالى - ويكون وليا له - سبحانه - .
وإذا كان كذلك كان الله - وليا له - أيضاً - كما قال : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } وقد افتتحت الآية الكريمة بأداة الاستفتاح { ألا } وبحرف التوكيد { إن } لتنبيه الناس إلى وجوب الاقتداء بهم ، حتى ينالوا ما ناله أولئك الأولياء الصالحون من سعادة دنيوية وأخروية .
وقوله : { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } تمييز لهم عن غيرهم ممن لم يبلغوا درجتهم .
والخوف : حالة نفسية تجعل الإِنسان مضطرب المشاعر لتوقعه حصلو ما يكرهه .
والحزن اكتئاب نفسي يحدث للإِنسان من أجل وقوع ما يكرهه .
أى : أن الخوف يكون من أجل مكروه يتوقع حصوله ، بينما الحزن يكون من أجل مكروه قد وقع فعلاً .
والمعنى : ألا إن أولياء الله الذين صدق إيمانهم ، وحسن عملهم ، لا خوف علهيم من أهوال الموقف وعذاب الآخرة ، ولا هم يحزنون على ما تركوا وراءهم من الدنيا ، لأن مقصدهم الأسمى رضا الله - سبحانه - فمتى فعلوا ما يؤدي إلى ذلك هان كل ما سواه .
وقوله : { الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } استئناف مسوق لتوضيح حقيقتهم فكأن سائلا قال : ومن هم أولياء الله؟ فكان الجواب هم الذين توفر فيهم الإِيمان الصادق ، والبعد التام عن كل ما نهى الله - تعالى - عنه .
وعبر عن إيمانهم بالفعل الماضي ، للإِشارة إلى أنه إيمان ثابت راسخ . لا تزلزله الشكوك ، ولا تؤثر فيه الشبهات .
وعبر عن تقواهم بالفعل الدال على الحال والاستقبال للإِيذان بأن اتقاءهم وابتعادهم عن كل ما يغضب الله من الأقوال والأفعال ، يتجدد ويستمر دون أن يصرفهم عن تقواهم وخوفهم منه - سبحانه - ترغيب وترهيب .
وقوله - سبحانه - { لَهُمُ البشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخرة } زيادة تكريم وتشريف لهم .
والبشرى والبشارة : الخبر السار ، فهو أخص من الخبر ، وسمى بذلك لأن أثره يظهر على البشرة وهى ظاهر جلد الإِنسان ، فيجعله متهلل الوجه ، منبسط الأسارير ، مبتهج النفس .
أى : لهم ما يسرهم ويسعدهم فى الدنيا من حياة آمنة طيبة ، ولهم - أيضاً - فى الآخرة ما يسرهم من فوز برضوان الله ، ومن دخول جنته .
قال الآلوسى ما ملخصه : " والثابت فى أكثر الروايات ، أن البشرى فى الحياة الدنيا ، هى الرؤيا الصالحة . . فقد أخرد الطيالسي وأحمد الدارمي والترمذي . . وغيرهم عن عبادة بن الصامت قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله - تعالى - { لَهُمُ البشرى فى الحياة الدنيا } فقال : " هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له " .
وقيل المراد بالبشرى : البشرى العاجلة نحو النصر والغنيمة والثناء الحسن ، والذكر الجميل ، ومحبة الناس ، وغير ذلك .
ثم قال : وأنت تعلم أنه لا ينبغي العدول عما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى تفسير ذلك إذا صح . وحيث عدل من عدل لعدم وقوفه على ذلك فيما أظن ، فالأولى أن تحمل البشرى فى الدارين على البشارة بما يحقق نفي الخوف والحزن كائناً ما كان . . . "
وقوله : { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله } أى : لا تغيير ولا خلف لأقوال الله - تعالى - ولا لما وعد به عباده الصالحين من وعود حسنة ، على رأسها هذه البشرى التي تسعدهم فى الحياة الدنيا وفى الآخرة .
واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - { ذلك هُوَ الفوز العظيم } يعود إلى ما ذكر من البشرى فى الدارين .
أى : ذلك المذكور من أن لهم البشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخرة ، هو الفوز العظيم الذى لا فوز وراءه ، والذي لا يفوته نجاح أو فضل .الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 2132)

[يونس/62-64] }
أحاديثُ في صفاتِ الوليِّ
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :« إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِى بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا وَلَئِنْ سَأَلَنِى عَبْدِى أَعْطَيْتُهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ »(1). وَهَذَا أَصَحُّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي الْأَوْلِيَاء(2)
__________
(1) - خ 8/131 وهق 3/346 (6622)و10/219 (21508 )والإتحاف 10/403 والصحيحة (1640) وسنة 5/19 وفتح 11/340و341 وتلخيص 3/117 وصفة 491 وصحيح الجامع ( 1782) والإحسان ( 347) وهـ ( 3989) صحيح
ومن أوهام الألبانى أنه قال فى هامش صحيح الجامع ( 1782) : كنت برهة من الزمن متوقفا فى صحة هذا الحديث ، ثم تتبعت طرقه ، فتبين لى أنه صحيح بمجموعها ، وقد صححه جمع ---اهـ .
وهذا يدل على تسرعه فى الحكم على الأحاديث ، وعلى عدم اعتداده بأقوال أهل العلم السابقين واعتباره صحيح البخارى كغيره من كتب السنة .
وكانت حجته فى التوقف فى صحة هذا الحديث أن أحد رواته خالد بن مخلد قيل فيه أنه صاحب مناكير وقال الذهبى : هذا حديث غريب جداً لولا هيبة الجامع الصحيح لعدوه من منكرات خالد بن مخلد وذلك لغرابة لفظه -- الميزان 1/640
أقول : هذا الكلام مردود على الذهبى رحمه الله فليس هذا الحديث غريبا كما زعم !!
وخالد بن مخلد إذا كان له مناكير لا يعنى أن يكون هذا الحديث منها أصلا ، لأن الإمام البخارى روى له ما لم ينكر عليه وقد ذكر ابن عدى فى ترجمته ما أنكر عليه ولم يذكر هذا الحديث وقال : قد اعتبرت حديثه ما روى عنه من الكوفيين محمد ابن عثمان بن كرامة ، ومن الغرباء أحمد بن سعيد الدارمى وعندى من حديثهما صدر صالح ، ولم أجد فى كتبه أنكر مما ذكرته ، فلعله توهما منه أو حملا على الحفظ وهو عندى إن شاء الله لا بأس به 1هـ 3/36 وقد حدث عن خالد كبار أهل العلم منهم البخارى ومسلم وابن أبى شيبة وأبو داود فى مسند مالك والترمذى والنسائى وابن ماجه وراجع التهذيب 3/116-118 فهو ثقة له أفراد وقد اعتمد حديث الولى وقواه ابن تيمية فى كتابه القيم الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ، وأفرده العلامه الشوكانى بكتاب ضخم تخريجا وشرحا فى كتابه القطر الجلى شرح حديث الولى .
ورد كلام الذهبى وناقشه الحافظ ابن حجر فى الفتح 11/340-341 .
فمن أسباب رد الحديث عدم فهمه ، والذى لا يكون متعمقا فى أصول الفقه وأصول تفسير النصوص يقع فى مثل هذه الأخطاء الجسيمة ، بحجة أنها ليست موافقة لفهمه القاصر !!
-------------
وفي الأسماء والصفات للبيهقي - (ج 3 / ص 69) :
أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي فيما حكى عن أبي عثمان الحيري رحمه الله أنه سئل عن معنى هذا الخبر فقال : معناه : كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الاستماع وبصره في النظر ويده في اللمس ورجله في المشي . أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنا جعفر بن محمد ، قال : قال الجنيد في معنى قوله : « يكره الموت وأكره مساءته » . يريد : لما يلقى من عيان الموت وصعوبته وكربه ، ليس أني أكره له الموت ، لأن الموت يورده إلى رحمته ومغفرته « . وقال أبو سليمان رحمه الله : قوله : » وكنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها « وهذه أمثال ضربها ، والمعنى والله أعلم ؛ توفيقه في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء وتيسير المحبة له فيها فيحفظ جوارحه عليه ، ويعصمه عن مواقعة ما يكره الله من إصغاء إلى اللهو بسمعه ، ونظر إلى ما نهى عنه من اللهو ببصره ، وبطش إلى ما لا يحل له بيده ، وسعي في الباطل برجله . وقد يكون معناه سرعة إجابة الدعاء ، والإنجاح في الطلبة ، وذلك أن مساعي الإنسان إنما تكون بهذه الجوارح الأربع ، وقوله : ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن ، فإنه أيضا مثل ، والتردد في صفة الله عز وجل غير جائز ، والبداء عليه في الأمور غير سائغ ، وتأويله على وجهين أحدهما : أن العبد قد يشرف في أيام عمره على المهالك مرات ذات عدد من داء يصيبه ، وآفة تنزل به ، فيدعو الله عز وجل فيشفيه منها ، ويدفع مكروهها عنه ، فيكون ذلك من فعله كتردد من يريد أمرا ثم يبدو له في ذلك فيتركه ويعرض عنه ، ولا بد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله ، فإنه قد كتب الفناء على خلقه ، واستأثر البقاء لنفسه ، وهذا على معنى ما روي : » إن الدعاء يرد البلاء « والله أعلم . وفيه وجه آخر : وهو أن يكون معناه : ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله ترديدي إياهم في نفس المؤمن ، كما روي في قصة موسى وملك الموت صلوات الله عليهما ، وما كان من لطمة عينه ، وتردده عليه مرة بعد أخرى ، وتحقيق المعنى في الوجهين معا : عطف الله عز وجل على العبد ، ولطفه به والله أعلم »
(2) - وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 342) :
سَاقَ الذَّهَبِيُّ فِي تَرْجَمَةِ خَالِد مِنْ الْمِيزَان بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْل أَحْمَد فِيهِ لَهُ مَنَاكِير ، وَقَوْل أَبِي حَاتِم لَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَأَخْرَجَ اِبْن عَدِيٍّ عَشَرَة أَحَادِيث مِنْ حَدِيثه اِسْتَنْكَرَهَا : هَذَا الْحَدِيث مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن مَخْلَد عَنْ مُحَمَّد بْن عُثْمَان بْن كَرَامَة شَيْخ الْبُخَارِيّ فِيهِ وَقَالَ : هَذَا حَدِيث غَرِيب جِدًّا لَوْلَا هَيْبَةُ الصَّحِيحِ لَعَدُّوهُ فِي مُنْكَرَات خَالِدِ بْن مَخْلَد ، فَإِنَّ هَذَا الْمَتْنَ لَمْ يُرْوَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَلَا خَرَّجَهُ مَنْ عَدَا الْبُخَارِيّ وَلَا أَظُنُّهُ فِي مُسْنَد أَحْمَدَ . قُلْت : لَيْسَ هُوَ فِي مُسْنَد أَحْمَد جَزْمًا ، وَإِطْلَاق أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ هَذَا الْمَتْنُ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَرْدُودٌ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَشَرِيكٌ شَيْخُ شَيْخِ خَالِدٍ فِيهِ مَقَالٌ أَيْضًا ، وَهُوَ رَاوِي حَدِيث الْمِعْرَاج الَّذِي زَادَ فِيهِ وَنَقَصَ وَقَدَّمَ وَأَخَّرَ وَتَفَرَّدَ فِيهِ بِأَشْيَاءَ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهَا كَمَا يَأْتِي الْقَوْل فِيهِ مُسْتَوْعَبًا فِي مَكَانِهِ ، وَلَكِنْ لِلْحَدِيثِ طُرُقٌ أُخْرَى يَدُلُّ مَجْمُوعُهَا عَلَى أَنْ لَهُ أَصْلًا ، مِنْهَا عَنْ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي " الزُّهْد " وَابْن أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو نُعَيْم فِي " الْحِلْيَة " وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " الزُّهْد " مِنْ طَرِيق عَبْد الْوَاحِد بْن مَيْمُون عَنْ عُرْوَة عَنْهَا ، وَذَكَرَ اِبْن حِبَّانَ وَابْن عَدِيٍّ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ ، وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ إِنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوب بْن مُجَاهِد عَنْ عُرْوَة وَقَالَ : لَمْ يَرَوْهُ عَنْ عُرْوَة إِلَّا يَعْقُوب وَعَبْد الْوَاحِد . وَمِنْهَا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " الزُّهْد " بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ . وَمِنْهَا عَنْ عَلِيٍّ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي مُسْنَد عَلِيٍّ ، وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَسَنَدُهُمَا ضَعِيفٌ ، وَعَنْ أَنَس أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيُّ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ أَيْضًا ، وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مُخْتَصَرًا وَسَنَده حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وَعَنْ مُعَاذِ بْن جَبَلٍ أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي " الْحِلْيَة " مُخْتَصَرًا وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا ، وَعَنْ وَهْب بْن مُنَبِّهٍ مَقْطُوعًا أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي " الزُّهْد " وَأَبُو نُعَيْم فِي " الْحِلْيَة " وَفِيهِ تَعَقُّبٌ عَلَى اِبْن حِبَّانَ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ إِخْرَاج حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة : لَا يُعْرَفُ لِهَذَا الْحَدِيث إِلَّا طَرِيقَانِ يَعْنِي غَيْر حَدِيث الْبَاب وَهُمَا هِشَامٌ الْكِنَانِيُّ عَنْ أَنَس وَعَبْد الْوَاحِد بْن مَيْمُون عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة وَكِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَاتِهِمْ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ .
قَوْله ( إِنَّ اللَّه تَعَالَى ) قَالَ الْكَرْمَانِيُّ : هَذَا مِنْ الْأَحَادِيث الْقُدْسِيَّةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا قَبْلَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ . قُلْت : وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَ بِهِ عَنْ جِبْرِيل عَنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَذَلِكَ فِي حَدِيث أَنَسٍ .
قَوْله ( مِنْ عَادَى لِي وَلِيًّا ) الْمُرَاد بِوَلِيِّ اللَّهِ الْعَالِم بِاَللَّهِ الْمُوَاظِب عَلَى طَاعَته الْمُخْلِص فِي عِبَادَته . وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ وُجُود أَحَدٍ يُعَادِيهِ لِأَنَّ الْمُعَادَاةَ إِنَّمَا تَقَعُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَمَنْ شَأْن الْوَلِيِّ الْحِلْم وَالصَّفْح عَمَّنْ يَجْهَل عَلَيْهِ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُعَادَاةَ لَمْ تَنْحَصِرْ فِي الْخُصُومَةِ وَالْمُعَامَلَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مَثَلًا بَلْ قَدْ تَقَع عَنْ بُغْضٍ يَنْشَأُ عَنْ التَّعَصُّبِ كَالرَّافِضِيِّ فِي بُغْضِهِ لِأَبِي بَكْرٍ ، وَالْمُبْتَدِع فِي بُغْضِهِ لِلسُّنِّيِّ ، فَتَقَعُ الْمُعَادَاةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، أَمَّا مِنْ جَانِب الْوَلِيِّ فَلِلَّهِ تَعَالَى وَفِي اللَّه ، وَأَمَّا مِنْ جَانِب الْآخَر فَلِمَا تَقَدَّمَ . وَكَذَا الْفَاسِق الْمُتَجَاهِر بِبُغْضِهِ الْوَلِيُّ فِي اللَّه وَبِبُغْضِهِ الْآخَر لِإِنْكَارِهِ عَلَيْهِ وَمُلَازَمَتِهِ لِنَهْيِهِ عَنْ شَهَوَاتِهِ . وَقَدْ تُطْلَقُ الْمُعَادَاةُ وَيُرَاد بِهَا الْوُقُوع مِنْ أَحَد الْجَانِبَيْنِ بِالْفِعْلِ وَمِنْ الْآخَر بِالْقُوَّةِ ، قَالَ الْكَرْمَانِيُّ : قَوْله " لِي " هُوَ فِي الْأَصْل صِفَةٌ لِقَوْلِهِ " وَلِيًّا " لَكِنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ صَارَ حَالًا . وَقَالَ اِبْن هُبَيْرَةَ فِي " الْإِفْصَاحِ " قَوْله " عَادَى لِي وَلِيًّا " أَيْ اِتَّخَذَهُ عَدُوًّا ، وَلَا أَرَى الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّهُ عَادَاهُ مِنْ أَجْلِ وِلَايَتِهِ وَهُوَ إِنْ تَضَمَّنَ التَّحْذِيرَ مِنْ إِيذَاء قُلُوبِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ لَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا إِذَا كَانَتْ الْحَالُ تَقْتَضِي نِزَاعًا بَيْنَ وَلِيَّيْنِ فِي مُخَاصَمَةٍ أَوْ مُحَاكَمَةٍ تَرْجِعُ إِلَى اِسْتِخْرَاجِ حَقٍّ أَوْ كَشْف غَامِضٍ ، فَإِنَّهُ جَرَى بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُشَاجَرَةٌ ، وَبَيْن الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوَقَائِعِ اِنْتَهَى مُلَخَّصًا مُوَضَّحًا . وَتَعَقَّبَهُ الْفَاكِهَانِيُّ بِأَنَّ مُعَادَاة الْوَلِيّ لِكَوْنِهِ وَلِيًّا لَا يُفْهَمُ إِلَّا إِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْحَسَدِ الَّذِي هُوَ تَمَنِّي زَوَال وِلَايَته وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا فِي حَقّ الْوَلِيِّ فَتَأَمَّلْهُ قُلْت : وَاَلَّذِي قَدَّمْته أَوْلَى أَنْ يُعْتَمَد ، قَالَ اِبْن هُبَيْرَة : وَيُسْتَفَاد مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَقْدِيمُ الْإِعْذَارِ عَلَى الْإِنْذَارِ وَهُوَ وَاضِحٌ .
قَوْله ( فَقَدْ آذَنْته ) بِالْمَدِّ وَفَتْح الْمُعْجَمَةِ بَعْدهَا نُونٌ أَيْ أَعْلَمْته ، وَالْإِيذَانُ الْإِعْلَامُ ، وَمِنْهُ أُخِذَ الْأَذَانُ .
قَوْله ( بِالْحَرْبِ ) فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " بِحَرْبٍ " وَوَقَعَ فِي حَدِيث عَائِشَةَ " مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا " وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ " مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا " وَفِي أُخْرَى لَهُ " مَنْ آذَى " وَفِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ مِثْلُهُ " فَقَدْ اِسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِي " وَفِي رِوَايَة وَهْبِ بْن مُنَبِّهٍ مَوْقُوفًا " قَالَ اللَّهُ مَنْ أَهَانَ وَلِيِّي الْمُؤْمِنَ فَقَدْ اِسْتَقْبَلَنِي بِالْمُحَارَبَةِ " وَفِي حَدِيث مُعَاذ " فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ " وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ وَأَنَسٍ " فَقَدْ بَارَزَنِي " وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ وُقُوعُ الْمُحَارَبَةِ وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَعَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ فِي أَسْرِ الْخَالِقِ ، وَالْجَوَاب أَنَّهُ مِنْ الْمُخَاطَبَةِ بِمَا يُفْهَمُ ، فَإِنَّ الْحَرْبَ تَنْشَأُ عَنْ الْعَدَاوَةِ وَالْعَدَاوَةُ تَنْشَأُ عَنْ الْمُخَالَفَةِ وَغَايَة الْحَرْب الْهَلَاك وَاَللَّه لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى فَقَدْ تَعَرَّضَ لِإِهْلَاكِي إِيَّاهُ . فَأَطْلَقَ الْحَرْبَ وَأَرَادَ لَازِمَهُ أَيْ أَعْمَلُ بِهِ مَا يَعْمَلُهُ الْعَدُوُّ الْمُحَارَبُ . قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ : فِي هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ ، لِأَنَّ مَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ أَهْلَكَهُ ، وَهُوَ مِنْ الْمَجَازِ الْبَلِيغِ ، لِأَنَّ مَنْ كَرِهَ مَنْ أَحَبَّ اللَّهُ خَالَفَ اللَّهَ وَمَنْ خَالَفَ اللَّهَ عَانَدَهُ وَمَنْ عَانَدَهُ أَهْلَكَهُ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي جَانِبِ الْمُعَادَاةِ ثَبَتَ فِي جَانِب الْمُوَالَاةِ ، فَمَنْ وَالَى أَوْلِيَاءَ اللَّه أَكْرَمَهُ اللَّهُ . وَقَالَ الطُّوفِيُّ : لَمَّا كَانَ وَلِيُّ اللَّهِ مَنْ تَوَلَّى اللَّهَ بِالطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى تَوَلَّاهُ اللَّهُ بِالْحِفْظِ وَالنُّصْرَةِ ، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِأَنَّ عَدُوَّ الْعَدُوّ صِدِّيقٌ وَصِدِّيقَ الْعَدُوِّ عَدُوٌّ ، فَعَدُوُّ وَلِيِّ اللَّهِ عَدُوُّ اللَّهِ فَمَنْ عَادَاهُ كَانَ كَمَنْ حَارَبَهُ وَمَنْ حَارَبَهُ فَكَأَنَّمَا حَارَبَ اللَّه .
قَوْله ( وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا اِفْتَرَضْت عَلَيْهِ ) يَجُوزُ فِي " أَحَبّ " الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ جَمِيعُ فَرَائِضِ الْعَيْنِ وَالْكِفَايَةِ ، وَظَاهِرُهُ الِاخْتِصَاصُ بِمَا اِبْتَدَأَ اللَّه فَرْضِيَّتَهُ ، وَفِي دُخُول مَا أَوْجَبَهُ الْمُكَلَّف عَلَى نَفْسِهِ نَظَرٌ لِلتَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ اِفْتَرَضْت عَلَيْهِ ، إِلَّا إِنْ أُخِذَ مِنْ جِهَة الْمَعْنَى الْأَعَمِّ ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ أَدَاء الْفَرَائِض أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّه . قَالَ الطُّوفِيُّ : الْأَمْرُ بِالْفَرَائِضِ جَازِمٌ وَيَقَعُ بِتَرْكِهَا الْمُعَاقَبَةُ بِخِلَافِ النَّفْلِ فِي الْأَمْرَيْنِ وَإِنْ اِشْتَرَكَ مَعَ الْفَرَائِضِ فِي تَحْصِيلِ الثَّوَابِ فَكَانَتْ الْفَرَائِضُ أَكْمَلَ ، فَلِهَذَا كَانَتْ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَشَدَّ تَقْرِيبًا ، وَأَيْضًا فَالْفَرْضُ كَالْأَصْلِ وَالْأُسِّ وَالنَّفْلُ كَالْفَرْعِ وَالْبِنَاءِ ، وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْفَرَائِضِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ اِمْتِثَالُ الْأَمْرِ وَاحْتِرَامُ الْآمِرِ وَتَعْظِيمُهُ بِالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ وَإِظْهَارُ عَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ فَكَانَ التَّقَرُّبُ بِذَلِكَ أَعْظَمَ الْعَمَلِ ، وَاَلَّذِي يُؤَدِّي الْفَرَائِض قَدْ يَفْعَلهُ خَوْفًا مِنْ الْعُقُوبَةِ وَمُؤَدِّي النَّفْلِ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا إِيثَارًا لِلْخِدْمَةِ فَيُجَازَى بِالْمَحَبَّةِ الَّتِي هِيَ غَايَةُ مَطْلُوبِ مَنْ يَتَقَرَّبُ بِخِدْمَتِهِ .
قَوْله ( وَمَا زَالَ ) فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " وَمَا يَزَالُ " بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ .
قَوْله ( يَتَقَرَّب إِلَيَّ ) التَّقَرُّب طَلَبُ الْقُرْبِ ، قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْقُشَيْرِيُّ : قُرْبُ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ يَقَعُ أَوَّلًا بِإِيمَانِهِ ، ثُمَّ بِإِحْسَانِهِ . وَقُرْبُ الرَّبِّ مِنْ عَبْدِهِ مَا يَخُصُّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ عِرْفَانِهِ ، وَفِي الْآخِرَة مِنْ رِضْوَانه ، وَفِيمَا بَيْن ذَلِكَ مِنْ وُجُوه لُطْفه وَامْتِنَانه . وَلَا يَتِمُّ قُرْبُ الْعَبْدِ مِنْ الْحَقِّ إِلَّا بِبَعْدِهِ مِنْ الْخَلْقِ . قَالَ : وَقُرْب الرَّبّ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَامٌّ لِلنَّاسِ ، وَبِاللُّطْفِ وَالنُّصْرَةِ خَاصٌّ بِالْخَوَاصِّ ، وَبِالتَّأْنِيسِ خَاصٌّ بِالْأَوْلِيَاءِ . وَوَقَعَ فِي حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ " يَتَحَبَّبُ إِلَىَّ " بَدَلَ " يَتَقَرَّبُ " وَكَذَا فِي حَدِيث مَيْمُونَةَ .
قَوْله ( بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أَحْبَبْته ) فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " أُحِبَّهُ " ظَاهِرُهُ أَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ تَقَعُ بِمُلَازَمَةِ الْعَبْدِ التَّقَرُّبَ بِالنَّوَافِلِ ، وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ بِمَا تَقَدَّمَ أَوَّلًا أَنَّ الْفَرَائِضَ أَحَبُّ الْعِبَادَاتِ الْمُتَقَرَّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ فَكَيْفَ لَا تُنْتِجُ الْمَحَبَّةَ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النَّوَافِلِ مَا كَانَتْ حَاوِيَةً لِلْفَرَائِضِ مُشْتَمِلَةً عَلَيْهَا وَمُكَمِّلَةً لَهَا ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ " اِبْن آدَم . إِنَّك لَنْ تُدْرِكَ مَا عِنْدِي إِلَّا بِأَدَاءِ مَا اِفْتَرَضْت عَلَيْك " وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ : مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّهُ إِذَا أَدَّى الْفَرَائِض وَدَامَ عَلَى إِتْيَان النَّوَافِل مِنْ صَلَاة وَصِيَام وَغَيْرهمَا أَفْضَى بِهِ ذَلِكَ إِلَى مَحَبَّة اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ اِبْن هُبَيْرَة : يُؤْخَذ مِنْ قَوْله " مَا تَقْرَب إِلَخْ " أَنَّ النَّافِلَة لَا تُقَدَّمُ عَلَى الْفَرِيضَة ، لِأَنَّ النَّافِلَة إِنَّمَا سُمِّيَتْ نَافِلَةً لِأَنَّهَا تَأْتِي زَائِدَةً عَلَى الْفَرِيضَةِ ، فَمَا لَمْ تُؤَدَّ الْفَرِيضَةُ لَا تَحْصُلُ النَّافِلَةُ ، وَمَنْ أَدَّى الْفَرْضَ ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ النَّفْل وَأَدَامَ ذَلِكَ تَحَقَّقَتْ مِنْهُ إِرَادَةُ التَّقَرُّبِ اِنْتَهَى . وَأَيْضًا فَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ التَّقَرُّبَ يَكُون غَالِبًا بِغَيْرِ مَا وَجَبَ عَلَى الْمُتَقَرِّب كَالْهَدِيَّةِ وَالتُّحْفَة بِخِلَافِ مَنْ يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنْ خَرَاجٍ أَوْ يَقْضِي مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ . وَأَيْضًا فَإِنَّ مِنْ جُمْلَة مَا شُرِعَتْ لَهُ النَّوَافِل جَبْر الْفَرَائِض كَمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِم " اُنْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَتَكْمُلُ بِهِ فَرِيضَتُهُ " الْحَدِيث بِمَعْنَاهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ التَّقَرُّب بِالنَّوَافِلِ أَنْ تَقَع مِمَّنْ أَدَّى الْفَرَائِضَ لَا مَنْ أَخَلَّ بِهَا كَمَا قَالَ بَعْض الْأَكَابِرِ : مَنْ شَغَلَهُ الْفَرْضُ عَنْ النَّفْلِ فَهُوَ مَعْذُورٌ وَمَنْ شَغَلَهُ النَّفْلُ عَنْ الْفَرْضِ فَهُوَ مَغْرُورٌ .
قَوْله ( فَكُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ " بِهِ " .
قَوْله ( وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ) فِي حَدِيث عَائِشَة فِي رِوَايَة عَبْد الْوَاحِد " عَيْنَهُ الَّتِي يُبْصِرُ بِهَا " وَفِي رِوَايَة يَعْقُوبَ بْن مُجَاهِد " عَيْنَيْهِ الَّتِي يُبْصِرُ بِهِمَا " بِالتَّثْنِيَةِ وَكَذَا قَالَ فِي الْأُذُنِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ ، وَزَادَ عَبْد الْوَاحِد فِي رِوَايَته " وَفُؤَادَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ ، وَلِسَانَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ " وَنَحْوه فِي حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ وَفِي حَدِيث مَيْمُونَةَ " وَقَلْبَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ " وَفِي حَدِيث أَنَس " وَمَنْ أَحْبَبْته كُنْت لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا " وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ كَيْفَ يَكُونُ الْبَارِي جَلَّ وَعَلَا سَمْعَ الْعَبْدِ وَبَصَرَهُ إِلَخْ ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى سَبِيل التَّمْثِيلِ ، وَالْمَعْنَى كُنْت سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ فِي إِيثَارِهِ أَمْرِي فَهُوَ يُحِبُّ طَاعَتِي وَيُؤْثِرُ خِدْمَتِي كَمَا يُحِبّ هَذِهِ الْجَوَارِح : ثَانِيهَا أَنَّ الْمَعْنَى كُلِّيَّته مَشْغُولَةٌ بِي فَلَا يُصْغِي بِسَمْعِهِ إِلَّا إِلَى مَا يُرْضِينِي ، وَلَا يَرَى بِبَصَرِهِ إِلَّا مَا أَمَرْتُهُ بِهِ . ثَالِثهَا الْمَعْنَى أُحَصِّلُ لَهُ مَقَاصِدَهُ كَأَنَّهُ يَنَالُهَا بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ إِلَخْ . رَابِعهَا كُنْت لَهُ فِي النُّصْرَة كَسَمْعِهِ وَبَصَره وَيَده وَرِجْلِهِ فِي الْمُعَاوَنَة عَلَى عَدُوِّهِ خَامِسهَا قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ وَسَبَقَهُ إِلَى مَعْنَاهُ اِبْن هُبَيْرَة : هُوَ فِيمَا يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ، وَالتَّقْدِيرُ كُنْت حَافِظ سَمْعِهِ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ فَلَا يَسْمَعُ إِلَّا مَا يَحِلُّ اِسْتِمَاعُهُ ، وَحَافِظ بَصَرِهِ كَذَلِكَ إِلَخْ . سَادِسُهَا قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ : يَحْتَمِل مَعْنًى آخَرَ أَدَقَّ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَهُوَ أَنْ يَكُون مَعْنَى سَمْعِهِ مَسْمُوعَهُ ، لِأَنَّ الْمَصْدَر قَدْ جَاءَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ مِثْل فُلَانٌ أَمْلَى بِمَعْنَى مَأْمُولِي ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ إِلَّا ذِكْرِي وَلَا يَلْتَذُّ إِلَّا بِتِلَاوَةِ كِتَابِي وَلَا يَأْنَسُ إِلَّا بِمُنَاجَاتِي وَلَا يَنْظُرُ إِلَّا فِي عَجَائِبِ مَلَكُوتِي وَلَا يَمُدُّ يَدَهُ إِلَّا فِيمَا فِيهِ رِضَايَ وَرِجْله كَذَلِكَ ، وَبِمَعْنَاهُ قَالَ اِبْن هُبَيْرَة أَيْضًا . وَقَالَ الطُّوفِيُّ : اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء مِمَّنْ يُعْتَدّ بِقَوْلِهِ أَنَّ هَذَا مَجَاز وَكِنَايَة عَنْ نُصْرَة الْعَبْد وَتَأْيِيده وَإِعَانَته ، حَتَّى كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُنَزِّلُ نَفْسَهُ مِنْ عَبْدِهِ مَنْزِلَةَ الْآلَاتِ الَّتِي يَسْتَعِينُ بِهَا وَلِهَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ " فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي " قَالَ : وَالِاتِّحَادِيَّة زَعَمُوا أَنَّهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَنَّ الْحَقَّ عَيْنُ الْعَبْدِ ، وَاحْتَجُّوا بِمَجِيءِ جِبْرِيلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ ، قَالُوا فَهُوَ رُوحَانِيٌّ خَلَعَ صُورَتَهُ وَظَهَرَ بِمَظْهَرِ الْبَشَرِ ، قَالُوا فَاَللَّهُ أَقْدَرُ عَلَى أَنْ يَظْهَرَ فِي صُورَةِ الْوُجُودِ الْكُلِّيِّ أَوْ بَعْضِهِ ، تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : هَذِهِ أَمْثَالٌ وَالْمَعْنَى تَوْفِيقُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يُبَاشِرُهَا بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ ، وَتَيْسِير الْمَحَبَّة لَهُ فِيهَا بِأَنْ يَحْفَظ جَوَارِحه عَلَيْهِ وَيَعْصِمَهُ عَنْ مُوَاقَعَة مَا يَكْرَه اللَّهُ مِنْ الْإِصْغَاء إِلَى اللَّهْو بِسَمْعِهِ ، وَمِنْ النَّظَر إِلَى مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ بِبَصَرِهِ ، وَمِنْ الْبَطْش فِيمَا لَا يَحِلّ لَهُ بِيَدِهِ ، وَمَنْ السَّعْيِ إِلَى الْبَاطِلِ بِرِجْلِهِ . وَإِلَى هَذَا نَحَا الدَّاوُدِيُّ ، وَمِثْله الْكَلَابَاذِيّ ، وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ أَحْفَظُهُ فَلَا يَتَصَرَّفُ إِلَّا فِي مَحَابِّي ، لِأَنَّهُ إِذَا أَحَبَّهُ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا يَكْرَهُهُ مِنْهُ . سَابِعُهَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا : وَقَدْ يَكُون عَبَّرَ بِذَلِكَ عَنْ سُرْعَة إِجَابَة الدُّعَاء وَالنُّجْحِ فِي الطَّلَب ، وَذَلِكَ أَنَّ مَسَاعِيَ الْإِنْسَان كُلَّهَا إِنَّمَا تَكُون بِهَذِهِ الْجَوَارِحِ الْمَذْكُورَةِ . وَقَالَ بَعْضهمْ : وَهُوَ مُنْتَزَع مِمَّا تَقَدَّمَ لَا يَتَحَرَّك لَهُ جَارِحَةٌ إِلَّا فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ ، فَهِيَ كُلُّهَا تَعْمَلُ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ . وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الزُّهْد " عَنْ أَبِي عُثْمَان الْجِيزِيّ أَحَد أَئِمَّة الطَّرِيق قَالَ : مَعْنَاهُ كُنْت أَسْرَعَ إِلَى قَضَاء حَوَائِجه مِنْ سَمْعِهِ فِي الْأَسْمَاع وَعَيْنِهِ فِي النَّظَرِ وَيَده فِي اللَّمْس وَرِجْله فِي الْمَشْي . وَحَمَلَهُ بَعْض مُتَأَخِّرِي الصُّوفِيَّة عَلَى مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ مَقَام الْفِنَاء وَالْمَحْو ، وَأَنَّهُ الْغَايَة الَّتِي لَا شَيْء وَرَاءَهَا ، وَهُوَ أَنْ يَكُون قَائِمًا بِإِقَامَةِ اللَّه لَهُ مُحِبًّا بِمَحَبَّتِهِ لَهُ نَاظِرًا بِنَظَرِهِ لَهُ مِنْ غَيْر أَنْ تَبْقَى مَعَهُ بَقِيَّةٌ تُنَاط بِاسْمٍ أَوْ تَقِفُ عَلَى رَسْمٍ أَوْ تَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ أَوْ تُوصَفُ بِوَصْفٍ ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَام أَنَّهُ يَشْهَدُ إِقَامَةَ اللَّهِ لَهُ حَتَّى ، قَامَ وَمَحَبَّته لَهُ حَتَّى أَحَبَّهُ وَنَظَرَهُ إِلَى عَبْدِهِ حَتَّى أَقْبَلَ نَاظِرًا إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ . وَحَمَلَهُ بَعْض أَهْل الزَّيْغ عَلَى مَا يَدْعُونَهُ مِنْ أَنَّ الْعَبْد إِذَا لَازَمَ الْعِبَادَةَ الظَّاهِرَة وَالْبَاطِنَة حَتَّى يُصَفَّى مِنْ الْكُدُورَات أَنَّهُ يَصِير فِي مَعْنَى الْحَقّ ، تَعَالَى اللَّه عَنْ ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ يَفْنَى عَنْ نَفْسه جُمْلَةً حَتَّى يَشْهَد أَنَّ اللَّه هُوَ الذَّاكِر لِنَفْسِهِ الْمُوَحِّد لِنَفْسِهِ الْمُحِبّ لِنَفْسِهِ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَاب وَالرُّسُوم تَصِير عَدَمًا صَرْفًا فِي شُهُوده وَإِنْ لَمْ تُعْدَم فِي الْخَارِج ، وَعَلَى الْأَوْجُه كُلّهَا فَلَا مُتَمَسَّكَ فِيهِ لِلِاتِّحَادِيَّةِ وَلَا الْقَائِلِينَ بِالْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَة لِقَوْلِهِ فِي بَقِيَّة الْحَدِيث " وَلَئِنْ سَأَلَنِي ، وَلَئِنْ اِسْتَعَاذَنِي " فَإِنَّهُ كَالصَّرِيحِ فِي الرَّدّ عَلَيْهِمْ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ سَأَلَنِي ) زَادَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ " عَبْدِي " .
قَوْلُهُ ( أَعْطَيْته ) أَيْ مَا سَأَلَ .
قَوْله ( وَلَئِنْ اِسْتَعَاذَنِي ) ضَبَطْنَاهُ بِوَجْهَيْنِ الْأَشْهَرُ بِالنُّونِ بَعْد الذَّال الْمُعْجَمَة وَالثَّانِي بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمَعْنَى أَعَذْته مِمَّا يَخَاف ، وَفِي حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ " وَإِذَا اِسْتَنْصَرَ بِي نَصَرْته " وَفِي حَدِيث أَنَس " نَصَحَنِي فَنَصَحْت لَهُ " وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَنَّ الْمُرَاد بِالنَّوَافِلِ جَمِيع مَا يُنْدَب مِنْ الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال . وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ الْمَذْكُور " وَأَحَبُّ عِبَادَة عَبْدِي إِلَىَّ النَّصِيحَةُ " وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ بِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْعُبَّادِ وَالصُّلَحَاءِ دَعَوْا وَبَالَغُوا وَلَمْ يُجَابُوا ، وَالْجَوَاب أَنَّ الْإِجَابَةَ تَتَنَوَّعُ : فَتَارَةً يَقَع الْمَطْلُوبُ بِعَيْنِهِ عَلَى الْفَوْرِ ، وَتَارَةً يَقَعُ وَلَكِنْ يَتَأَخَّرُ لِحِكْمَةٍ فِيهِ ، وَتَارَة قَدْ تَقَع الْإِجَابَة وَلَكِنْ بِغَيْرِ عَيْنِ الْمَطْلُوبِ حَيْثُ لَا يَكُون فِي الْمَطْلُوب مَصْلَحَةٌ نَاجِزَةٌ وَفِي الْوَاقِع مَصْلَحَة نَاجِزَة أَوْ أَصْلَحُ مِنْهَا . وَفِي الْحَدِيث عِظَمُ قَدْر الصَّلَاة فَإِنَّهُ يَنْشَأ عَنْهَا مَحَبَّة اللَّه لِلْعَبْدِ الَّذِي يَتَقَرَّبُ بِهَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْمُنَاجَاةِ وَالْقُرْبَةِ ، وَلَا وَاسِطَةَ فِيهَا بَيْن الْعَبْد وَرَبِّهِ ، وَلَا شَيْء أَقَرَّ لَعَيْنِ الْعَبْدِ مِنْهَا وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيث أَنَس الْمَرْفُوع " وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاة " أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْره بِسَنَدٍ صَحِيحٍ ، وَمَنْ كَانَتْ قُرَّةُ عَيْنه فِي شَيْء فَإِنَّهُ يَوَدُّ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ وَلَا يَخْرُجَ مِنْهُ لِأَنَّ فِيهِ نَعِيمَهُ وَبِهِ تَطِيبُ حَيَاتُهُ ، وَإِنَّمَا يَحْصُل ذَلِكَ لِلْعَابِدِ بِالْمُصَابَرَةِ عَلَى النَّصَب ، فَإِنَّ السَّالِك غَرَضُ الْآفَات وَالْفُتُورِ . وَفِي حَدِيث حُذَيْفَة مِنْ الزِّيَادَة " وَيَكُون مِنْ أَوْلِيَائِي وَأَصْفِيَائِي ، وَيَكُون جَارِي مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء فِي الْجَنَّة " وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الْحَدِيث بَعْضُ الْجَهَلَة مِنْ أَهْلِ التَّجَلِّي وَالرِّيَاضَة فَقَالُوا : الْقَلْبُ إِذَا كَانَ مَحْفُوظًا مَعَ اللَّهِ كَانَتْ خَوَاطِرُهُ مَعْصُومَةً مِنْ الْخَطَأِ . وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ أَهْل الطَّرِيق فَقَالُوا : لَا يُلْتَفَتُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ، وَالْعِصْمَةُ إِنَّمَا هِيَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَمَنْ عَدَاهُمْ فَقَدْ يُخْطِئُ ، فَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ رَأْسَ الْمُلْهَمِينَ وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ رُبَّمَا رَأَى الرَّأْيَ فَيُخْبِرُهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِهِ فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ وَيَتْرُك رَأْيه . فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِمَا يَقَع فِي خَاطِرِهِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَقَدْ اِرْتَكَبَ أَعْظَم الْخَطَإِ ، وَأَمَّا مَنْ بَالَغَ مِنْهُمْ فَقَالَ : حَدَّثَنِي قَلْبِي عَنْ رَبِّي فَإِنَّهُ أَشَدّ خَطَأ فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُون قَلْبه إِنَّمَا حَدَّثَهُ عَنْ الشَّيْطَانِ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ . قَالَ الطُّوفِيُّ : هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي السُّلُوكِ إِلَى اللَّه وَالْوُصُول إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَرِيقِهِ ، إِذْ الْمُفْتَرَضَاتُ الْبَاطِنَةُ وَهِيَ الْإِيمَان وَالظَّاهِرَة وَهِيَ الْإِسْلَام وَالْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا وَهُوَ الْإِحْسَانُ فِيهِمَا كَمَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ جِبْرِيل ، وَالْإِحْسَان يَتَضَمَّنُ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ مِنْ الزُّهْد وَالْإِخْلَاص وَالْمُرَاقَبَة وَغَيْرهَا ، وَفِي الْحَدِيث أَيْضًا أَنَّ مَنْ أَتَى بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَتَقَرَّبَ بِالنَّوَافِلِ لَمْ يُرَدَّ دُعَاؤُهُ لِوُجُودِ هَذَا الْوَعْد الصَّادِق الْمُؤَكَّد بِالْقَسَمِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَاب عَمَّا يَتَخَلَّفُ مِنْ ذَلِكَ ، وَفِيهِ أَنَّ الْعَبْدَ وَلَوْ بَلَغَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ حَتَّى يَكُونَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ الطَّلَبِ مِنْ اللَّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُضُوعِ لَهُ وَإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذَا وَاضِحًا فِي أَوَائِل كِتَاب الدَّعَوَات .
قَوْله ( وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ ) وَفِي حَدِيث عَائِشَة " تَرَدُّدِي عَنْ مَوْتِهِ " وَوَقَعَ فِي " الْحِلْيَة " فِي تَرْجَمَة وَهْب بْن مُنَبِّه " إِنِّي لَأَجِدُ فِي كُتُب الْأَنْبِيَاء أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول : مَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ قَطُّ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْض رُوحِ الْمُؤْمِنِ إِلَخْ " قَالَ الْخَطَّابِيُّ : التَّرَدُّدُ فِي حَقِّ اللَّهِ غَيْرُ جَائِزٍ ، وَالْبَدَاءُ عَلَيْهِ فِي الْأُمُورِ غَيْرُ سَائِغٍ . وَلَكِنْ لَهُ تَأْوِيلَانِ : أَحَدهمَا أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يُشْرِفُ عَلَى الْهَلَاكِ فِي أَيَّامِ عُمُرِهِ مِنْ دَاءٍ يُصِيبُهُ وَفَاقَةٍ تَنْزِلُ بِهِ فَيَدْعُو اللَّه فَيَشْفِيهِ مِنْهَا وَيَدْفَع عَنْهُ مَكْرُوهَهَا ، فَيَكُون ذَلِكَ مِنْ فِعْله كَتَرَدُّدِ مَنْ يُرِيدُ أَمْرًا ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فِيهِ فَيَتْرُكُهُ وَيُعْرِضُ عَنْهُ وَلَا بُدّ لَهُ مِنْ لِقَائِهِ إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ، لِأَنَّ اللَّه قَدْ كَتَبَ الْفَنَاءَ عَلَى خَلْقِهِ وَاسْتَأْثَرَ بِالْبَقَاءِ لِنَفْسِهِ . وَالثَّانِي أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ مَا رَدَدْت رُسُلِي فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ كَتَرْدِيدِي إِيَّاهُمْ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ ، كَمَا رَوَى فِي قِصَّةِ مُوسَى وَمَا كَانَ مِنْ لَطْمَةِ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ وَتَرَدُّدِهِ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْد أُخْرَى ، قَالَ : وَحَقِيقَة الْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ عَطْف اللَّه عَلَى الْعَبْدِ وَلُطْفُهُ بِهِ وَشَفَقَتُهُ عَلَيْهِ . وَقَالَ الْكَلَابَاذِيّ مَا حَاصِله : أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ صِفَة الْفِعْل بِصِفَةِ الذَّات ، أَيْ عَنْ التَّرْدِيد بِالتَّرَدُّدِ ، وَجَعَلَ مُتَعَلَّقَ التَّرْدِيدِ اِخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْعَبْدِ مِنْ ضَعْف وَنَصَبٍ إِلَى أَنْ تَنْتَقِلَ مَحَبَّتُهُ فِي الْحَيَاةِ إِلَى مَحَبَّتِهِ لِلْمَوْتِ فَيُقْبَضُ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ : وَقَدْ يُحْدِثُ اللَّهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ مِنْ الرَّغْبَة فِيمَا عِنْده وَالشَّوْق إِلَيْهِ وَالْمَحَبَّة لِلِقَائِهِ مَا يَشْتَاق مَعَهُ إِلَى الْمَوْت فَضْلًا عَنْ إِزَالَة الْكَرَاهَة عَنْهُ ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَيَسُوءُهُ ، وَيَكْرَهُ اللَّهُ مُسَاءَتَهُ فَيُزِيلُ عَنْهُ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ لِمَا يُورِدُهُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْوَال فَيَأْتِيه الْمَوْت وَهُوَ لَهُ مُؤْثِرٌ وَإِلَيْهِ مُشْتَاق . قَالَ : وَقَدْ وَرَدَ تَفَعَّلَ بِمَعْنَى فَعَلَ مِثْل تَفَكَّرَ وَفَكَّرَ وَتَدَبَّرَ وَدَبَّرَ وَتَهَدَّدَ وَهَدَّدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَعَنْ بَعْضهمْ : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون تَرْكِيب الْوَلِيّ يَحْتَمِل أَنْ يَعِيش خَمْسِينَ سَنَةً وَعُمُرُهُ الَّذِي كُتِبَ لَهُ سَبْعُونَ فَإِذَا بَلَغَهَا فَمَرِضَ دَعَا اللَّه بِالْعَافِيَةِ فَيُحْيِيهِ عِشْرِينَ أُخْرَى مَثَلًا ، فَعَبَّرَ عَنْ قَدْر التَّرْكِيبِ وَعَمًّا اِنْتَهَى إِلَيْهِ بِحَسَبِ الْأَجَلِ الْمَكْتُوبِ بِالتَّرَدُّدِ ، وَعَبَّرَ اِبْن الْجَوْزِيِّ عَنْ الثَّانِي بِأَنَّ التَّرَدُّدَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَ الرُّوحَ وَأَضَافَ الْحَقّ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ تَرَدُّدَهُمْ عَنْ أَمْرِهِ ، قَالَ : وَهَذَا التَّرَدُّدُ يَنْشَأُ عَنْ إِظْهَارِ الْكَرَاهَةِ . فَإِنْ قِيلَ إِذَا أُمِرَ الْمَلَكُ بِالْقَبْضِ كَيْفَ يَقَعُ مِنْهُ التَّرَدُّدُ ؟ فَالْجَوَاب أَنَّهُ يَتَرَدَّدُ فِيمَا يُحَدُّ لَهُ فِيهِ الْوَقْتُ . كَأَنْ يُقَالَ لَا تَقْبِضْ رُوحَهُ إِلَّا إِذَا رَضِيَ . ثُمَّ ذَكَرَ جَوَابًا ثَالِثًا وَهُوَ اِحْتِمَال أَنْ يَكُون مَعْنَى التَّرَدُّد اللُّطْف بِهِ كَأَنَّ الْمَلَك يُؤَخِّر الْقَبْض ، فَإِنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَى قَدْرِ الْمُؤْمِنِ وَعِظَم الْمَنْفَعَةِ بِهِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا اِحْتَرَمَهُ فَلَمْ يَبْسُطْ يَدَهُ إِلَيْهِ ، فَإِذَا ذَكَرَ أَمْرَ رَبِّهِ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ اِمْتِثَالِهِ . وَجَوَابًا رَابِعًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا لَنَا بِمَا نَعْقِلُ وَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ " وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً " فَكَمَا أَنَّ أَحَدَنَا يُرِيدُ أَنْ يَضْرِب وَلَده تَأْدِيبًا فَتَمْنَعُهُ الْمَحَبَّةُ وَتَبْعَثُهُ الشَّفَقَةُ فَيَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا وَلَوْ كَانَ غَيْرَ الْوَالِدِ كَالْمُعَلَّمِ لَمْ يَتَرَدَّدْ بَلْ كَانَ يُبَادِرُ إِلَى ضَرْبِهِ لِتَأْدِيبِهِ فَأُرِيدَ تَفْهِيمُنَا تَحْقِيق الْمَحَبَّة لِلْوَلِيِّ بِذِكْرِ التَّرَدُّد . وَجَوَّزَ الْكَرْمَانِيُّ اِحْتِمَالًا آخَر وَهُوَ أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُ يَقْبِض رُوح الْمُؤْمِن بِالتَّأَنِّي وَالتَّدْرِيجِ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ كُنْ سَرِيعًا دَفْعَةً .
قَوْله ( يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ ) فِي حَدِيث عَائِشَة " إِنَّهُ يَكْرَه الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَه مُسَاءَتَهُ " زَادَ اِبْن مَخْلَد عَنْ اِبْن كَرَامَةَ فِي آخِره " وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ " وَوَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا فِي حَدِيث وَهْب ، وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الزُّهْد " عَنْ الْجُنَيْد سَيِّد الطَّائِفَةِ قَالَ : الْكَرَاهَة هُنَا لِمَا يَلْقَى الْمُؤْمِن مِنْ الْمَوْت وَصُعُوبَتِهِ وَكَرْبِهِ ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنِّي أَكْرَهُ لَهُ الْمَوْت لِأَنَّ الْمَوْت يُورِدُهُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَمَغْفِرَتِهِ اِنْتَهَى . وَعَبَّرَ بَعْضهمْ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمَوْت حَتْم مَقْضِيّ ، وَهُوَ مُفَارَقَة الرُّوح لِلْجَسَدِ ، وَلَا تَحْصُل غَالِبًا إِلَّا بِأَلَمٍ عَظِيم جِدًّا كَمَا جَاءَ عَنْ عَمْرو بْن الْعَاصِ أَنَّهُ سُئِلَ وَهُوَ يَمُوت فَقَالَ : " كَأَنِّي أَتَنَفَّس مِنْ خُرْم إِبْرَة ، وَكَأَنَّ غُصْن شَوْك يَجُرُّ بِهِ مِنْ قَامَتِي إِلَى هَامَتِي " وَعَنْ كَعْب أَنَّ عُمَر سَأَلَهُ عَنْ الْمَوْت فَوَصَفَهُ بِنَحْوِ هَذَا ، فَلَمَّا كَانَ الْمَوْت بِهَذَا الْوَصْف ، وَاَللَّهُ يَكْرَه أَذَى الْمُؤْمِنِ ، أَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ الْكَرَاهَة . وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون الْمُسَاءَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طُول الْحَيَاة لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ، وَتَنَكُّس الْخَلْق وَالرَّدّ إِلَى أَسْفَل سَافِلِينَ . وَجَوَّزَ الْكَرْمَانِيُّ أَنْ يَكُون الْمُرَاد أَكْرَه مُكْرَهَهُ الْمَوْت فَلَا أُسْرِع بِقَبْضِ رُوحِهِ فَأَكُون كَالْمُتَرَدِّدِ . قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْفَضْل بْن عَطَاء : فِي هَذَا الْحَدِيث عِظَم قَدْر الْوَلِيِّ ، لِكَوْنِهِ خَرَجَ عَنْ تَدْبِيره إِلَى تَدْبِير رَبّه ، وَعَنْ اِنْتِصَاره لِنَفْسِهِ إِلَى اِنْتِصَارِ اللَّهِ لَهُ ، وَعَنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ بِصِدْقِ تَوَكُّلِهِ . قَالَ : وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَنْ لَا يُحْكَمَ لِإِنْسَانٍ آذَى وَلِيًّا ثُمَّ لَمْ يُعَاجَلْ بِمُصِيبَةٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ بِأَنَّهُ سَلِمَ مِنْ اِنْتِقَامِ اللَّهِ ، فَقَدْ تَكُون مُصِيبَتُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِ كَالْمُصِيبَةِ فِي الدِّينِ مَثَلًا . قَالَ : وَيَدْخُلُ فِي قَوْله " اِفْتَرَضْت عَلَيْهِ " الْفَرَائِض الظَّاهِرَة فِعْلًا كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَغَيْرهمَا مِنْ الْعِبَادَات ، وَتَرْكًا كَالزِّنَا وَالْقَتْل وَغَيْرهمَا مِنْ الْمُحَرَّمَات ، وَالْبَاطِنَة كَالْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَالْحُبّ لَهُ وَالتَّوَكُّل عَلَيْهِ وَالْخَوْف مِنْهُ وَغَيْر ذَلِكَ . وَهِيَ تَنْقَسِم أَيْضًا إِلَى أَفْعَال وَتُرُوك . قَالَ : وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَاز اِطِّلَاع الْوَلِيّ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ بِإِطْلَاعِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنْ اِرْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ دُخُولَ بَعْضِ أَتْبَاعِهِ مَعَهُ بِالتَّبَعِيَّةِ لِصِدْقِ قَوْلِنَا مَا دَخَلَ عَلَى الْمَلِك الْيَوْمَ إِلَّا الْوَزِيرُ ، وَمِنْ الْمَعْلُوم أَنَّهُ دَخَلَ مَعَهُ بَعْض خَدَمِهِ . قُلْت الْوَصْف الْمُسْتَثْنَى لِلرَّسُولِ هُنَا إِنْ كَانَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِ كَوْنِهِ رَسُولًا فَلَا مُشَارَكَةَ لِأَحَدٍ مِنْ أَتْبَاعِهِ فِيهِ إِلَّا مِنْهُ ، وَإِلَّا فَيَحْتَمِل مَا قَالَ ، وَالْعِلْم عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .

، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَنْ عَادَى وَلِيًّا لِلَّهِ فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ (1). وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { وَإِنِّي لَأَثْأَرُ لِأَوْلِيَائِي كَمَا يَثْأَرُ اللَّيْثُ الْحَرِبُ }(2)
__________
(1) - قال صاحب الإفصاح في هذا الحديث من الفقه إن الله سبحانه وتعالى قدم الأعذار إلى كل من عادى ولياً إنه إنه قد آذنه بأنه محاربه بنفس المعاداة، وولي الله تعالى هو الذي يتبع ما شرعه الله تعالى فليحذر الإنسان من إيذاء قلوب أولياء الله عز وجل ومعنى المعاداة أن يتخذه عدواً.
ولا أرى المعنى إلا من عاداه لأجل ولاية الله، وأما إذا كانت الأحوال تقتضي نزاعاً بين وليين لله محاكمة أو خصومة راجعة إلى استخراج حق غامض فإن ذلك لا يدخل في هذا الحديث فإنه قد جرى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما خصومة وبين العباس وعلي رضي الله عنهما وبين كثير من الصحابة وكلهم كانوا أولياء الله عز وجل.
قوله: " وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه " فيه إشارة إلى إنه لا تقدم نافلة على فريضة وإنما سميت النافلة نافلة إذا قضيت الفريضة وإلا فلا يتناولها إسم النافلة ويدل على ذلك قوله: " ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه " لأن التقرب بالنوافل يكون بتلو أداء الفرائض ومتى أدام العبد التقرب بالنوافل أفضى ذلك به إلى أن يحبه الله عز وجل ثم قال: " فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به " إلى آخره فهذه علامة ولاية الله، لمن لم يكن قد أحبه، ومعنى ذلك أنه لا يسمع ما لم يأذن الشرع له بسماعه ولا يبصر ما لم يأذن الشرع له في إبصاره ولا يمد يده إلى شيء ما لم يأذن الشرع له في مدها إليه، ولا يسعى برجله إلا فيما أذن الشرع في السعي إليه، فهذا هو الأصل إلا أنه قد يغلب على عبد ذكر الله تعالى حتى يعرف بذلك فإن خوطب بغيره لم يكد يسمع لمن يخاطبه حتى يتقرب إليه بذكر الله غير أهل الذكر توصلاً إلى أن يسمع لهم وكذلك في المبصرات والمتناولات والمسعى إليه، وتلك صفة عالية نسأل الله أن يجعلنا من أهلها.
قوله: " ولئن استعاذني لأعيذنه " يدل على أن العبد إذا صار من أهل حب الله تعالى لم يمتنع أن يسأل ربه حوائجه ويستعيذ به ممن يخافه والله تعالى قادر على أن يعطيه قبل أن يسأله وأن يعيذه قبل أن يستعيذه ولكنه سبحانه متقرب إلى عباده بإعطاء السائلين وإعاذة المستعيذين. وقوله: " استعاذني " ضبطوه بالنون والباء وكلاهما صحيح. شرح الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية - (ج 1 / ص 34)
(2) - " يَقُولُ اللهُ تَعالى : مَن أَهَان َ لي وَلياًّ فَقد بَارَزني بِالمُحاربةِ ، وَإِنِّي لأ سرعُ شَيءٍ إِلى نُصرةِ أَوليَائي إِني لأَغضبُ لَهم كَمَا يَغضَبُ اللَّيثُ الحَربُ ، وَما تَرددتُ عَن شَيءٍ أَنا فَاعِلهُ تَرددي عَن قَبضِ رُوحِ عَبدي المُؤمِنِ وهُوَ يَكرهُ المَوتَ وَأَكرهُ مَساءتهُ وَلا بُدَّ لَهُ مِنهُ ، وَما تَعبَّدَ لي عَبدي المُؤمنُ بِمثلِ الزُّهدِ في الدُّنيَا ، وَلا تَقربَ عَبدِي المُؤمنُ بِمثلِ أَداءِ مَا افترضتُ عَليهِ ، ولاَ يَزالُ عَبدي يَتقربُ إِليَّ بِالنوافِلِ حَتى أُحبهُ ، فَإذا أَحببتهُ كُنتُ لهُ سَمعاً وَبَصراً وَيداً وموئلاً ، إِنْ سَأَلني أَعطيتهُ ، وإِنْ دَعاني أَستجيبُ لهُ ، وإِن َّمن عِبادي المُؤمنينَ لَمَن يَسأَلني البَابَ مِنَ العِبادةِ فَأَكُفهُ عَنهُ ، وَلو أَعطيتهُ إِياهُ لَدَاخلهُ العُجبُ وَأَفسدهُ ذلِكَ ، وَإِنَّ مِن عِبادي المُؤمنينَ لَمَن لاَ يَصلحُ لهُ إلا الغِنىَ وَلو أَفقرتهُ لأَفسدهُ ذلِكَ ، وَإِنَّ مِن عِبادي المؤمنينَ لَمَن لاَ يَصلحُ لهُ إِلا الفَقرُ ، ولو أَغنيتهُ لأَفسدهُ ذلكَ ، وإِنَّ مِن عِباديَ المُؤمنينَ لَمَنْ لاَ يُصلحهُ إِلا الصحةُ وَلو أَسقمتهُ لأَفسدهُ ذلِكَ وإِنَّ منْ عِباديَ المؤمِنينَ لَمَن لاَيَصلحُ لَهُ إلاَّ السُّقمُ وَلو أصححتهُ لأَفسدهُ ذلِكَ ، إِني أدبَّرُ عِبادي بِعلمِي بِقلُوبهِم ، إِني عَليمٌ خَبيرٌ "
موسوعة السنة النبوية - (ج 16 / ص 86)22852 وأخرجه ابن أبى الدنيا فى الأولياء (ص 9 ، رقم 1) ، والحكيم (2/232) ، وأبو نعيم فى الحلية (8/318) ، وابن عساكر (7/95)والإتحاف 8/102 و 477 9/440 وطب 8/264 ومجمع 2/248 والسلسلة الضعيفة - (1775) وفيه ضعف
وفي كشف المشكل من حديث الصحيحين - (ج 1 / ص 1007)لأبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي رحمه الله قال :
في هذا الحديث إشكالات سبعة :
أحدها أن يقال كيف يعادي الإنسان الأولياء والأولياء قد تركوا الدنيا وانفردوا عن الخلق فإن جهل عليهم جاهل حلموا والعداوة إنما تكون عن خصومة والإشكال الثاني قوله ( ( فقد آذنته بالحرب ) ) وكيف يتصور الحرب بين الخالق والمخلوق والمحارب مناظر وهذا المخلوق في أسر قبضة الخالق والإشكال الثالث ( ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ) ) والعادة قد جرت بأن التقرب يكون بما لا يجب كالهدايا إلى الملوك دون أداء الخراج فإن مؤدي اللازم لا يكاد يحمد وإنما يشكر من فعل ما لا يجب
والرابع أن يقال فإذا كانت الفرائض أفضل القربات فكيف أثمرت النوافل المحبة ولم تثمرها الفرائض والخامس قوله ( ( كنت سمعه وبصره ويده ) ) فما صورة هذا
والسادس قوله ( ( ولئن سألني لأعطينه ) ) وكم قد رأينا من عابد وصالح يدعو ويبالغ ولا يرى إجابة
والسابع قوله ( ( وما ترددت عن شيء ) ) والتردد إنما يقع إذا أشكلت المصلحة في العواقب وذلك ينشأ عن ضعف التدبير والحق عز وجل منزه عن ذلك
والجواب أما الإشكال الأول فإن معاداة الأولياء يقع من أربعة أوجه
أحدها أن يعاديهم الإنسان عصبية لغيرهم كما يعادي الرافضي أبا بكر وعمر والثاني مخالفة لمذهبهم كما يعادي أهل البدع أحمد ابن حنبل
والثالث احتقارا لهم فيكون الفعل بهم فعل الأعداء كما كان بعض الجهال يحصب أويسا القرني
والرابع أنه قد يكون بين الولي وبين الناس معاملات وخصومات وليس كل الأولياء ينفردون في الزوايا فرب ولي في السوق
وأما الإشكال الثاني فإن الإنسان إنما خوطب بما يعقل ونهاية العداوة الحرب ومحاربة الله عز وجل للإنسان أن يهلكه وتقدير الكلام فقد تعرض لإهلاكي إياه
وأما الإشكال الثالث فإن في أداء الواجبات احتراما للأمر وتعظيما للأمر وبذلك الإنقياد تظهر عظمة الربوبية ويبين ذل العبودية
وأما الرابع فإنه لما أدى المؤمن جميع الواجبات ثم زاد بالتنفل وقعت المحبة لقصد التقرب لأن مؤدي الفرض ربما فعله خوفا من العقاب والمتقرب بالنفل لا يفعله إلا إيثارا للخدمة والقرب فيثمر له ذلك مقصوده
وأما الخامس فإن قوله ( ( كنت سمعه وبصره ) ) مثل وله أربعة أوجه
أحدهما كنت كسمعه وبصره في إيثاره أمري فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يحب هذه الجوارح
والثاني أن كليته مشغولة فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني ولا يبصر إلا عن أمري
والثالث أن المعنى أني أحصل له مقاصده كما يناله بسمعه وبصره
والرابع كنت له في العون والنصرة كبصره ويده اللذين يعاونانه على عدوه
وأما السادس فإنه ما سئل ولي قط إلا وأجيب وإلا أنه قد تؤخر الإجابة لمصلحة وقد يسأل ما يظن فيه مصلحة ولا يكون فيه مصلحة فيعوض سواه
وأما السابع فجوابه من وجهين
أحدهما أن يكون التردد للملائكة الذين يقبضون الأرواح فأضافه الحق عز وجل إلى نفسه لأن ترددهم عن أمره كما قال تعالى ( وما نتنزل إلا بأمر ربك ) مريم 64 وتردد الملائكة إنما يكون لإظهار كرامة الآدمي كما تردد ملك الموت إلى آدم وإبراهيم وموسى ونبينا {صلى الله عليه وسلم} فأما أن يكون التردد لله فمحال في حقه وهذا مذهب الخطابي فإن اعترض على هذا فقيل متى أمر الملك بقبض الروح لم يجز له التردد فكيف يتردد؟
فالجواب من وجهين
أحدهما أن يكون إنما تردد فيما لم يجزم له فيه على وقت كما روي ( ( أنه لما بعث ملك الموت إلى الخليل قيل له تلطف بعبدي ) )
والثاني أن يكون تردد رقة ولطف بالمؤمن لا أنه يؤخر القبض فإنه إذا نظر إلى قدر المؤمن من احترمه فلم تنبسط يده لقبض روحه وإذا ذكر أمر الإله لم يكن له يد في امتثاله والثاني أنه خطاب لنا بما نعقل وقد تنزه الرب عز وجل عن حقيقته كما قال ( ( من أتاني يمشي أتيته هرولة ) ) فكما أن أحدنا يتردد في ضرب ولده فيأمره التأديب بضربه وتمنعه المحبة فإذا أخبر بالتردد فهمنا قوة محبته له بخلاف عبده فإنه لا يتردد في ضربه فأريد تفهيمنا تحقيق المحبة للولي بذكر التردد ومن الجائز أن يكون تركيب الولي يحتمل خمسين سنة فيدعو عند المرض فيعافى ويقوى تركيبه فيعيش عشرين أخرى فتغيير التركيب والمكتوب من الأجل كالتردد وذلك ثمرة المحبة .

أَيْ آخُذُ ثَأْرَهُمْ مِمَّنْ عَادَاهُمْ كَمَا يَأْخُذُ اللَّيْثُ الْحَرِبُ ثَأْرَهُ ،وَهَذَا لِأَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَوَالَوْهُ فَأَحَبُّوا مَا يُحِبُّ وَأَبْغَضُوا مَا يُبْغِضُ، وَرَضُوا بِمَا يَرْضَى وَسَخِطُوا بِمَا يَسْخَطُ ،وَأَمَرُوا بِمَا يَأْمُرُ وَنَهَوْا عَمَّا نَهَى، وَأَعْطَوْا لِمَنْ يُحِبُّ أَنْ يُعْطَى وَمَنَعُوا مَنْ يُحِبُّ أَنْ يُمْنَعَ، كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :{ أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ : الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ }(1) ،وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ رَوَاهُ أَبُو داود قَالَ :« مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ »(2).
وَ " الْوِلَايَةُ " ضِدُّ الْعَدَاوَةِ ،وَأَصْلُ الْوِلَايَةِ الْمَحَبَّةُ وَالْقُرْبُ، وَأَصْلُ الْعَدَاوَةِ الْبُغْضُ وَالْبُعْدُ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْوَلِيَّ سُمِّيَ وَلِيًّا مِنْ مُوَالَاتِهِ لِلطَّاعَاتِ أَيْ مُتَابَعَتِهِ لَهَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَالْوَلِيُّ: الْقَرِيبُ، فَيُقَالُ : هَذَا يَلِي هَذَا أَيْ يَقْرُبُ مِنْهُ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :« أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا ، فَمَا بَقِىَ فَهْوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ »(3)
__________
(1) - سنن أبى داود (4601) ومصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 11 / ص 48)(30413 و30436) ومسند أحمد (21909) وشعب الإيمان للبيهقي ( 12-14) ومسند الطيالسي 204 (783) وهو صحيح لغيره
(2) - سنن أبى داود(4683)ومصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 11 / ص 53)(30430 و34724) والإبانة الكبرى لابن بطة (852 ) والمعجم الكبير للطبراني (7493 و7639 )وصحيح الجامع (5965) صحيح
( مَنْ أَحَبَّ )أَيْ شَيْئًا أَوْ شَخْصِيًّا فَحُذِفَ الْمَفْعُول
( لِلَّهِ ) : أَيْ لِأَجْلِهِ وَلِوَجْهِهِ مُخْلِصًا لَا لِمَيْلِ قَلْبه وَلَا لِهَوَاهُ
( وَأَبْغَض لِلَّهِ ) : لَا لِإِيذَاءِ مَنْ أَبْغَضَهُ لَهُ بَلْ لِكُفْرِهِ وَعِصْيَانه
( وَأَعْطَى لِلَّهِ ) : أَيْ لِثَوَابِهِ وَرِضَاهُ لَا لِنَحْوِ رِيَاء
( وَمَنَعَ لِلَّهِ ) : أَيْ لِأَمْرِ اللَّه ، كَأَنْ لَمْ يَصْرِف الزَّكَاة لِكَافِرٍ لِخِسَّتِهِ وَلَا لِهَاشِمِيٍّ لِشَرَفِهِ بَلْ لِمَنْعِ اللَّه لَهُمَا مِنْهَا . قَالَهُ الْمُنَاوِيُّ
( فَقَدْ اِسْتَكْمَلَ الْإِيمَان ) : بِالنَّصْبِ أَيْ أَكْمَلَهُ وَقِيلَ بِالرَّفْعِ أَيْ تَكَمَّلَ إِيمَانه .عون المعبود - (ج 10 / ص 200)
(3) - صحيح البخارى (6732 ) ومسلم (4226 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 5 / ص 497):
قَالَ الْعُلَمَاء : الْمُرَاد بِأَوْلَى رَجُل : أَقْرَب رَجُل ، مَأْخُوذ مِنْ الْوَلْي بِإِسْكَانِ اللَّام عَلَى وَزْن الرَّمْي ، وَهُوَ الْقُرْب ، وَلَيْسَ الْمُرَاد بِأَوْلَى هُنَا أَحَقَّ ، بِخِلَافِ قَوْلهمْ : الرَّجُل أَوْلَى بِمَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ هُنَا عَلَى ( أَحَقَّ ) لَخَلَى عَنْ الْفَائِدَة ، لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَنْ هُوَ الْأَحَقّ .
وَصْف الرَّجُل بِأَنَّهُ ذَكَر تَنْبِيهًا عَلَى سَبَب اِسْتِحْقَاقه وَهُوَ الذُّكُورَة الَّتِي هِيَ سَبَب الْعُصُوبَة وَسَبَب التَّرْجِيح فِي الْإِرْث ، وَلِهَذَا جَعَلَ الذَّكَر مِثْل حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَحِكْمَته أَنَّ الرِّجَال تَلْحَقهُمْ مُؤَن كَثِيرَة بِالْقِيَامِ بِالْعِيَالِ وَالضِّيفَان ، وَالْأَرِقَّاء وَالْقَاصِدِينَ ، وَمُوَاسَاة السَّائِلِينَ وَتَحَمُّل الْغَرَامَات وَغَيْر ذَلِكَ . وَاللَّهُ أَعْلَم .
وَهَذَا الْحَدِيث فِي تَوْرِيث الْعَصَبَات وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا بَقِيَ بَعْد الْفُرُوض فَهُوَ لِلْعَصَبَاتِ يُقَدَّم الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب ، فَلَا يَرِث عَاصِب بَعِيد مَعَ وُجُود قَرِيب ، فَإِذَا خَلَّفَ بِنْتًا وَأَخًا وَعَمًّا ، فَلِلْبِنْتِ النِّصْف فَرْضًا ، وَالْبَاقِي لِلْأَخِ ، وَلَا شَيْء لِلْعَمِّ ، قَالَ أَصْحَابنَا : وَالْعَصَبَة ثَلَاثَة أَقْسَام : عَصَبَة بِنَفْسِهِ كَالِابْنِ وَابْنه وَالْأَخ وَابْنه وَالْعَمّ وَابْنه وَعَمّ الْأَب وَالْجَدّ وَابْنهمَا وَنَحْوهمْ ؛ وَقَدْ يَكُون الْأَب وَالْجَدّ عَصَبَة ، وَقَدْ يَكُون لَهُمَا فَرْض ، فَمَتَى كَانَ لِلْمَيِّتِ اِبْن أَوْ اِبْن اِبْن لَمْ يَرِث الْأَب إِلَّا السُّدُس فَرْضًا ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ وَلَد وَلَا وَلَد اِبْن وَرِثَ بِالتَّعْصِيبِ فَقَطْ ، وَمَتَى كَانَتْ بِنْت أَوْ بِنْت اِبْن أَوْ بِنْتَانِ اِبْن أَخَذَ الْبَنَات فَرْضهنَّ وَلِلْأَبِ مِنْ الْبَاقِي السُّدُس فَرْضًا ، وَالْبَاقِي بِالتَّعْصِيبِ ، هَذَا أَحَد الْأَقْسَام ، وَهُوَ الْعَصَبَة بِنَفْسِهِ .
الْقِسْم الثَّانِي الْعَصَبَة بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْبَنَات بِالْبَنِينَ ، وَبَنَات الِابْن بِبَنِي الِابْن ، وَالْأَخَوَات بِالْإِخْوَةِ .
وَالثَّالِث : الْعَصَبَة مَعَ غَيْره ، وَهُوَ الْأَخَوَات لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ لِلْأَبِ مَعَ الْبَنَات وَبَنَات الِابْن فَإِذَا خَلَّفَ بِنْتًا وَأُخْتًا لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ فَلِلْبِنْتِ النِّصْف فَرْضًا وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ بِالتَّعْصِيبِ ، وَإِنْ خَلَّفَ بِنْتًا وَبِنْت اِبْن وَأُخْتًا لِأَبَوَيْنِ أَوْ أُخْتًا لِأَبٍ فَلِلْبِنْتِ النِّصْف وَلِبِنْتِ الِابْن السُّدُس ، وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ . وَإِنْ خَلَّفَ بِنْتَيْنِ وَبِنْتَيْ اِبْن وَأُخْتًا لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ فَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ ، وَلَا شَيْء لِبِنْتَيْ الِابْن ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْء مِنْ فَرْض جِنْس الْبَنَات وَهُوَ الثُّلُثَانِ . قَالَ أَصْحَابنَا : وَحَيْثُ أَطْلَقَ الْعَصَبَة فَالْمُرَاد بِهِ الْعَصَبَة بِنَفْسِهِ ، وَهُوَ كُلّ ذَكَر يُدْلِي بِنَفْسِهِ بِالْقَرَابَةِ لَيْسَ بَيْنه وَبَيْن الْمَيِّت أُنْثَى ، وَمَتَى اِنْفَرَدَ الْعَصَبَة أَخَذَ جَمِيع الْمَال ، وَمَتَى كَانَ مَعَ أَصْحَاب فُرُوض مُسْتَغْرِقَة فَلَا شَيْء لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقُوا كَانَ لَهُ الْبَاقِي بَعْد فُرُوضهمْ .
وَأَقْرَب الْعَصَبَات الْبَنُونَ ، ثُمَّ بَنُوهُمْ ، ثُمَّ الْأَب ثُمَّ الْجَدّ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَخ ، وَالْأَخ إِنْ لَمْ يَكُنْ جَدٌّ . فَإِنْ كَانَ جَدٌّ وَأَخ فَفِيهَا خِلَاف مَشْهُور ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَة ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، ثُمَّ أَعْمَام الْأَب ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، ثُمَّ أَعْمَام الْجَدّ ، ثُمَّ بَنُوهُمْ ، ثُمَّ أَعْمَام جَدّ الْأَب ثُمَّ بَنُوهُمْ ، وَهَكَذَا .
وَمَنْ أَدْلَى بِأَبَوَيْنِ يُقَدَّم عَلَى مَنْ يُدْلِي بِأَبٍ ، فَيُقَدَّم أَخ مِنْ أَبَوَيْنِ عَلَى أَخ مِنْ أَب ، وَيُقَدَّم عَمٌّ لِأَبَوَيْنِ عَلَى عَمٍّ بِأَبٍ ، وَكَذَا الْبَاقِي ، وَيُقَدَّم الْأَخ مِنْ الْأَب عَلَى اِبْن الْأَخ مِنْ الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّ جِهَة الْأُخُوَّة أَقْوَى وَأَقْرَب ، وَيُقَدَّم اِبْن أَخ لِأَبٍ عَلَى عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ ، وَيُقَدَّم عَمٌّ لِأَبٍ عَلَى اِبْن عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ وَكَذَا الْبَاقِي . وَاللَّهُ أَعْلَم .
وَلَوْ خَلَّفَ بِنْتًا وَأُخْتًا لِأَبَوَيْنِ وَأَخًا لِأَبٍ فَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور أَنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْف ، وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ وَلَا شَيْء لِلْأَخِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا - : لِلْبِنْتِ النِّصْف ، وَالْبَاقِي لِلْأَخِ دُون الْأُخْت ، وَهَذَا الْحَدِيث الْمَذْكُور فِي الْبَاب ظَاهِر فِي الدَّلَالَة لِمَذْهَبِهِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

. أَيْ لِأَقْرَبِ رَجُلٍ إلَى الْمَيِّتِ . وَأَكَّدَهُ بِلَفْظِ " الذَّكَرِ " لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِالذُّكُورِ، وَلَا يَشْتَرِكُ فِيهَا الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ كَمَا قَالَ فِي الزَّكَاةِ { فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٍ }(1) .
وليُّ الرحمنِ متابعٌ للرسولِ صلى الله عليه وسلم في الأمرِ والنهيِ
__________
(1) - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ قَالَ أَخَذْتُ مِنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ كِتَابًا زَعَمَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَهُ لأَنَسٍ وَعَلَيْهِ خَاتَمُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ بَعَثَهُ مُصَدِّقًا وَكَتَبَهُ لَهُ فَإِذَا فِيهِ « هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِى فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا نَبِيَّهُ -صلى الله عليه وسلم- فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلاَ يُعْطِهِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الإِبِلِ الْغَنَمُ فِى كُلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ شَاةٌ. فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ خَمْسًا وَثَلاَثِينَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلاَثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ إِلَى سِتِّينَ فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَسِتِّينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ إِلَى تِسْعِينَ فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِى كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِى كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ فَإِذَا تَبَايَنَ أَسْنَانُ الإِبِلِ فِى فَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ فَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَأَنْ يَجْعَلَ مَعَهَا شَاتَيْنِ - إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ - أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ حِقَّةٌ وَعِنْدَهُ جَذَعَةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ حِقَّةٌ وَعِنْدَهُ ابْنَةُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ هَا هُنَا لَمْ أَضْبِطْهُ عَنْ مُوسَى كَمَا أُحِبُّ « وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ - إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ - أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ بِنْتِ لَبُونٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُ إِلاَّ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ إِلَى هَا هُنَا ثُمَّ أَتْقَنْتُهُ « وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ ابْنَةِ لَبُونٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُ إِلاَّ بِنْتُ مَخَاضٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ ابْنَةِ مَخَاضٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُ إِلاَّ ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَهُ شَىْءٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إِلاَّ أَرْبَعٌ فَلَيْسَ فِيهَا شَىْءٌ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا وَفِى سَائِمَةِ الْغَنَمِ إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا شَاةٌ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا شَاتَانِ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ فَفِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ ثَلاَثَمِائَةٍ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلاَثِمِائَةٍ فَفِى كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ فِى الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ مِنَ الْغَنَمِ وَلاَ تَيْسُ الْغَنَمِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الْمُصَّدِّقُ وَلاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ فَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ أَرْبَعِينَ فَلَيْسَ فِيهَا شَىْءٌ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا وَفِى الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَالُ إِلاَّ تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَىْءٌ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا ».سنن أبى داود (1569 ) وهو صحيح
الجذعة : التى أتى عليها أربع سنين وطعنت فى الخامسة = الحقة : هى التى دخلت فى الرابعة =الذود : من الإبل ما بين الثنتين إلى التسع وقيل ما بين الثلاث إلى العشر
السائمة : التى ترعى فى أكثر السنة =ابن لبون : ما أتى عليه سنتان ودخل فى الثالثة فصارت أمه لبونا بوضع الحمل =بنت مخاض : ما دخل فى السنة الثانية لأن أمه قد لحقت بالمخاض أى الحوامل =الهرمة : كبيرة السن =الرقة : الفضة

فَإِذَا كَانَ وَلِيُّ اللَّهِ هُوَ الْمُوَافِقُ الْمُتَابِعُ لَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ ،وَيُبْغِضُهُ وَيُسْخِطُهُ، وَيَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ ،كَانَ الْمُعَادِي لِوَلِيِّهِ مُعَادِيًا لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} (1)(1) سورة الممتحنة .
فَمَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدْ عَادَاهُ، وَمَنْ عَادَاهُ فَقَدْ حَارَبَهُ فَلِهَذَا قَالَ :{ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِى بِالْحَرْبِ}(2)
__________
(1) - يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، لا تتخذوا عدوي وعدوكم خلصاء وأحباء، تُفْضون إليهم بالمودة، فتخبرونهم بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وسائر المسلمين، وهم قد كفروا بما جاءكم من الحق من الإيمان بالله ورسوله وما نزل عليه من القرآن، يخرجون الرسول ويخرجونكم- أيها المؤمنون- من "مكة"؛ لأنكم تصدقون بالله ربكم، وتوحدونه، إن كنتم- أيها المؤمنون- هاجرتم مجاهدين في سبيلي، طالبين مرضاتي عنكم، فلا توالوا أعدائي وأعداءكم، تُفْضون إليهم بالمودة سرًّا، وأنا أعلم بما أخفيتم وما أظهرتم، ومن يفعل ذلك منكم فقد أخطأ طريق الحق والصواب، وضلَّ عن قصد السبيل.
(2) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 3 / ص 346)(6622) والبخاري (6502) بلفظ ( مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ )
وفي شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 1 / ص 415)
المعاداة: هي المباعدة وهي ضد الموالاة والولي بينه الله عز وجل في قوله ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون هؤلاء هم أولياء الله { الذين آمنوا } أي: حققوا الإيمان في قلوبهم بكل ما يجب الإيمان به { وكانوا يتقون } أي حققوا العمل الصالح بجوارحهم فاتقوا جميع المحارم من ترك الواجبات أو فعل المحرمات فهم جمعوا بين صلاح الباطن بالإيمان وصلاح الظاهر بالتقوى هؤلاء هم أولياء الله وليست ولاية الله سبحانه وتعالى تأتي بالدعوى كما يفعله بعض الدجالين الذين يموهون على العامة بأنهم أولياء لله وهم أعداء والعياذ بالله فتجد في بعض البلاد الإسلامية أناسا يموهون للعامة يقولون نحن أولياء ثم يفعل من العبادات الظاهرة ما يموه به على العامة وهو من أعداء الله لكنه يتخذ من هذه الدعوة وسيله إلى جمع المال وإلى إكرام الناس له وإلى تقربهم إليه وما أشبه ذلك وعندنا ولله الحمد ضابط بينه الله عز وجل وتعريف جيد للأولياء { وكانوا يتقون } هؤلاء هم أولياء الله فالذي يعادي أولياء الله يقول الله عز وجل فقد آذنته بالحرب يعني أعلنت عله الحرب فالذي يعادي أولياء الله محارب لله عز وجل نسأل الله العافية ومن حارب الله فهو مهزوم مخذول لا تقوم له قائمة ثم قال سبحانه وتعالى ومن تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه يعني أن الله يقول ما تقرب إلي الإنسان بشيء أحب إلي مما افترضته عليه يعني أن الفرائض أحب إلى الله من النوافل فالصلوات الخمس مثلا أحب إلى الله من قيام الليل وأحب إلى الله من النوافل وصيام رمضان أحب إلى الله من صيام الإثنين والخميس والأيام الست من شوال وما أشبهها كل الفرائض أحب إلى الله من النوافل ووجه ذلك أن الفرائض وكدها الله عز وجل فألزم بها العباد وهذا دليل على شدة محبته لها عز وجل فلما كان يحبها شديدا ألزم بها العباد أما النوافل فالإنسان حر إن شاء تنفل وزاد خيرا وإن شاء لم يتنفل لكن الفرائض أحب إلى الله وأوكد والغريب أن الشيطان يأتي الناس فتجدهم في النوافل يحسنونها تماما تجده مثلا في صلاة الليل يخشع ولا يتحرك ولا يذهب قلبه يمينا ولا شمالا لكن إذا جاءت الفرائض فالحركة كثيرة والوساوس كثيرة والهواجس بعيدة وهذا من تزيين الشيطان فإذا كنت تزين النافلة فالفريضة أحق بالتزين فأحسن الفريضة لأنها أحب إلى الله عز وجل من النوافل وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه النوافل تقرب إلى الله وهي تكمل الفرائض فإذا أكثر الإنسان من النوافل مع قيامه بالفرائض نال محبة الله فيحبه الله وإذا أحبه فكما يقول الله عز وجل كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها يعني أنه يكون مسددا له في هذه الأعضاء الأربعة في السمع: يسدده في سمعه فلا يسمع إلا ما يرضي الله وما فيه الخير والصلاة ويعرض عما يغضب الله فلا يستمع إليه ويكون ممن إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم كذلك أيضا بصره: فلا ينظر إلا ما يحب الله النظر إليه ولا ينظر إلى المحرم ولا ينظر نظرا محرما ويده فلا يعمل بيده إلا ما يرضي الله لأن الله يسدده وكذلك رجله فلا يمشي إلا إلى ما يرضي الله فلا يسعى إلا ما فيه الخير وهذا معنى قوله كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها أي أنه تعالى يسدد عبده هذا في سمعه وبصره وبطشه ومشيه فإذا كان الله سبحانه وتعالى مسددا له في هذه الأشياء كان موفقا مغتنما لأوقاته منتهزا لفرصه وليس المعنى أن الله يكون نفس السمع ونفس البصر ونفس اليد ونفس الرجل ـ حاش لله ـ فهذا محال فإن هذه أعضاء وأبعاد لشخص مخلوق لا يمكن أن تكون هي الخالق ولأن الله تعالى أثبت في هذا الحديث في قوله ولئن سألني أعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه فأثبت سائلا ومسئولا وعائذا ومعوذا به وهذا غير هذا وفي قوله سبحانه وتعالى في هذا الحديث القدسي ولئن سألني أعطيته دليل على أن هذا الوالي الذي تقرب إلى الله تعالى بالفرائض ثم بالنوافل إذا سأل الله أعطاه فكان مجاب الدعوة وهذا الإطلاق يقيد بالأحاديث الأخرى الدالة على أنه يعطي السائل سؤاله ما لم يسأل إثما أو قطيعة رحم فإن سأل إثما فإنه لا يجاب لكن الغالب أن الولي لا يسأل الإثم لأن الولي هو المؤمن التقي والمؤمن التقي لا يسأل إثما ولا قطيعة رحم ولئن استعاذني لأعيذنه يعني لئن اعتصم بي ولجأ إلى من شر كل ذي شر لأعيذنه فيحصل له بإعطائه مسؤوله وإعاذته مما يتعوذ منه المطلوب ويزول عنه المرغوب وفي هذا الحديث عدة فوائد: أولا: إثبات الولاية لله عز وجل وولاية الله تعالى تنقسم على قسمين: ولاية عامة وهي السلطة على جميع العباد والتصرف فيهم بما أراد كل إنسان فإن الذي يتولى أموره وتدبيره وتصريفه هو الله عز وجل ومن ذلك قوله تبارك وتعالى { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق } فهذه ولاية عامة تشمل جميع الخلق أما الولاية الخاصة: مثل قوله تعالى { والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات } والولاية العامة تكون بغير سبب من الإنسان يتولى الله الإنسان شاء أم أبى وبغير سبب منه أما الولاية الخاصة فإنها تكون بسبب من الإنسان فهو الذي يتعرض لولاية الله حتى يكون الله وليا له { الذين آمنوا وكانوا يتقون } ومن فوائد هذا الحديث: فضيلة أولياء الله وأن الله سبحانه وتعالى يعادي من عاداهم بل يكون حربا عليهم عز وجل ومن فوائد هذا الحديث: أن الأعمال الواجبة من صلاة وصدقة وصوم وحج وجهاد وعلم وغير ذلك أفضل من الأعمال المستحبة لأن الله تعالى قال ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب مما افترضه عليه ومن فوائده: إثبات المحبة لله عز وجل وأن الله تعالى يحب الأعمال بعضها أكثر من بعض كما أنه يحب الأشخاص بعضهم أكثر من بعض فالله عز وجل يحب العاملين بطاعته ويحب الطاعة وتتفاوت محبته سبحانه وتعالى على حسب ما تقتضيه حكمته ومن فوائد هذا الحديث: أيضا أن الإنسان إذا تقرب إلى الله بالنوافل مع القيام بالواجبات فإنه يكون بذلك معافا في جميع أموره لقوله تعالى في هذا الحديث القدسي: وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ..
إلخ وفيه دليل أيضا على أن من أراد أن يحبه الله فالأمر سهل عليه إذا أسهله الله عليه يقوم بالواجبات ويكثر من التطوع بالعبادات فبذلك ينال محبة الله وينال ولاية الله ومن فوائد هذا الحديث: إثبات عطاء الله عز وجل وإجابة دعوته لوليه لقوله إن سألني أعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه وأتى به المؤلف في باب المجاهدة لأن النفس تحتاج إلى جهاد في القيام بالواجبات ثم بفعل المستحبات نسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته .

.
أفضلُ الأولياءِ الأنبياءُ والمرسلونَ
وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ هُمْ أَنْبِيَاؤُهُ ،وَأَفْضَلُ أَنْبِيَائِهِ هُمُ الْمُرْسَلُونَ مِنْهُمْ ،وَأَفْضَلُ الْمُرْسَلِينَ أُولُو الْعَزْمِ : نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى : {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (1)(13) سورة الشورى، وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)(2) } [الأحزاب/7، 8] .
- - - - - - - - - - - - - - - -
أَفْضَلُ أُولِي الْعَزْمِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَفْضَلُ أُولِي الْعَزْمِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،خَاتَمُ النَّبِيِّينَ (3)،وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ (4)
__________
(1) - شَرَعَ اللهُ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا شَرَعَ لِنُوحٍ ، وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ وَأُوْلِي العَزْمِ مِنَ الرُسُلِ ، وَأَمْرَهُمْ أَمْراً مُؤَكَّداً مِمَّا هُوَ أَصْلُ الإِيْمَانِ ، وَأَصْلُ الشَّرَائِعِ ، مِمَّا لاَ يَخْتَلِفُ بِاخْتَلافِ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ : كَالإِيْمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَالإِيْمَانِ بِاليَوْمِ الآخِرِ ، وَالإِيْمَانِ بِالمَلاَئِكَةِ وَالكُتُبِ والرُّسُلِ . وَقَدْ أَوْصَاهُمْ تَعَالَى جَمِيعاً بِإِقَامَةِ دِينِ التَّوْحِيدِ والتَّمْسُّكِ بِهِ ، وَبِحِفْظِهِ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِيهِ زَيغٌ أَوِ اضْطِرَابٌ ، وَبِأَلاَّ يَتَفَرَّقُوا فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَمَبَادِئِهَا .
( أَمَّا فِي التَّفَاصِيلِ فَقَدْ جَاءَ كُلُّ مُرْسَلٍ بِمَا يُنَاسِبُ قَوْمَهُ وَزَمَانَهُ ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ) .
وَقَدْ شَقَّ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيهِ مِنَ التَّوْحِيدِ ، وَتَركِ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ ، وَمَا أَلْفَوْا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ ، وَاللهُ يَصْطَفِي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيُقَرِّبُهُمْ إِلَيهِ ، وَيُوَفِّقُهُمْ لِلعَمَلِ بِطَاعَتِهِ ، وَأتِّبَاعِ رُسُلِهِ .
(2) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أولي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ هُمْ خَمْسَةٌ : نُوحٌ وَإِبراهيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وُحَمَّدٌ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَخَذَ العَهْدَ والمِيثَاقَ عَلَى هؤلاءِ الرُّسُلِ ، وَعَلَى سَائِرِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ فِي إِبلاغِ رِسَالَةِ اللهِ لِلنَّاسِ ، وَإِقَامَةِ دِين اللهِ ، وفي التَّعاوُنِ والتَّنَاصُر { أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } وَأَعْلَمَ اللهُ تَعَالى الرُّسُلَ والأَنبياءَ أَنَّهُ سَيَْأَلُهُمْ عَمَّا فَعَلُوهُ فِي إِبلاغِ الرِّسَالةِ { وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين } فَاعْتَبَرَ ذَلِكَ مِيثاقاً غَلِيظاً ، عَظِيمَ الشَّأْنِ .
وَقَدْ أَخَذَ اللهُ تَعَالى المِيثَاقَ عَلَى الأَنبياءِ لِيَسْأَلَهُمْ عَمَّا أَجَابَتْهُمْ بِهِ الأُمَمُ التي أُرسِلُوا إِليها ، وَعَمّا فَعَلَتْهُ الأُمَمُ فِيما بَلَّغَهُ المُرْسَلونَ إِليها مِنْ رِسَالَةِ رَبِّهِمْ ، وَلِيَسْأَلْ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ، لِيُكَافِئَهُمْ عَلَيهِ ، وَلِيَسْأَلَ الكَاذِبينَ عَنْ كَذِبِهِمْ ، لِيُعاقِبَهُمْ عَلَيهِ ، وَقَدْ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً فِي نَارِ جَهَنَّمَ .
(3) - قال تعالى : مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) [الأحزاب/40، 41]
(4) - ففي صحيح البخارى (7367 ) عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِى عَطَاءٌ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِى أُنَاسٍ مَعَهُ قَالَ أَهْلَلْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى الْحَجِّ خَالِصًا لَيْسَ مَعَهُ عُمْرَةٌ - قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ - فَقَدِمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَحِلَّ وَقَالَ « أَحِلُّوا وَأَصِيبُوا مِنَ النِّسَاءِ » . قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ فَبَلَغَهُ أَنَّا نَقُولُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلاَّ خَمْسٌ أَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ إِلَى نِسَائِنَا فَنَأْتِى عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَذْىَ قَالَ وَيَقُولُ جَابِرٌ بِيَدِهِ هَكَذَا وَحَرَّكَهَا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّى أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَصْدَقُكُمْ وَأَبَرُّكُمْ وَلَوْلاَ هَدْيِى لَحَلَلْتُ كَمَا تَحِلُّونَ فَحِلُّوا فَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ » . فَحَلَلْنَا وَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا .
وفي مسند أحمد(24402) عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ أَنَّ الأَنْصَارِىَّ أَخْبَرَ عَطَاءً أَنَّهُ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ صَائِمٌ فَأَمَرَ امْرَأَتَهُ فَسَأَلَتِ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ». فَأَخْبَرَتْهُ امْرَأَتُهُ فَقَالَ إِنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يُرَخَّصُ لَهُ فِى أَشْيَاءَ فَارْجِعِى إِلَيْهِ فَقُولِى لَهُ. فَرَجَعَتْ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ قَالَ إِنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يُرَخَّصُ لَهُ فِى أَشْيَاءَ. فَقَالَ « أَنَا أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِ اللَّهِ ». وهو صحي
















،وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ (1)،وَإِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ إذَا اجْتَمَعُوا وَخَطِيبُهُمْ إذَا وَفَدُوا(2)،صَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ(3) الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ وَصَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ(4)
__________
(1) - عَنِ الأَوْزَاعِىِّ حَدَّثَنِى أَبُو عَمَّارٍ حَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَرُّوخَ حَدَّثَنِى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ ».صحيح مسلم (6079 )
(2) - عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« أَنَا أَوَّلُهُمْ خُرُوجاً ، وَأَنَا قَائِدُهُمْ إِذَا وَفَدُوا ، وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا أَنْصَتُوا ، وَأَنَا مُسْتَشْفِعُهُمْ إِذَا حُبِسُوا ، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أَيِسُوا ، الْكَرَامَةُ وَالْمَفَاتِيحُ يَوْمَئِذٍ بِيَدِى ، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّى ، يَطُوفُ عَلَىَّ أَلْفُ خَادِمٍ كَأَنَّهُمْ بَيْضٌ مَكْنُونٌ أَوْ لُؤْلُؤٌ مَنْثُورٌ ».
كثير 7/12 ونبوة 5/484 و الإتحاف 10/496 وجامع الأصول 8/527 وت (3610) ومي 1/26 (49 )وع (160) والسنة الخلال(235) ومجمع 8/254عبد الله بن سلام
حسن لغيره
(3) - قال تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (79) سورة الإسراء
(4) - عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ وَبِيَدِى لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلاَ فَخْرَ وَمَا مِنْ نَبِىٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلاَّ تَحْتَ لِوَائِى وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ وَلاَ فَخْرَ قَالَ فَيَفْزَعُ النَّاسُ ثَلاَثَ فَزَعَاتٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ أَبُونَا آدَمُ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ. فَيَقُولُ إِنِّى أَذْنَبْتُ ذَنْبًا أُهْبِطْتُ مِنْهُ إِلَى الأَرْضِ وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا. فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ إِنِّى دَعَوْتُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ دَعْوَةً فَأُهْلِكُوا وَلَكِنِ اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ. فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ إِنِّى كَذَبْتُ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا مِنْهَا كَذْبَةٌ إِلاَّ مَاحَلَ بِهَا عَنْ دِينِ اللَّهِ وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى. فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ إِنِّى قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى. فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ إِنِّى عُبِدْتُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا قَالَ فَيَأْتُونَنِى فَأَنْطَلِقُ مَعَهُمْ ». قَالَ ابْنُ جُدْعَانَ قَالَ أَنَسٌ فَكَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « فَآخُذُ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ فَأُقَعْقِعُهَا فَيُقَالُ مَنْ هَذَا فَيُقَالُ مُحَمَّدٌ. فَيَفْتَحُونَ لِى وَيُرَحِّبُونَ فَيَقُولُونَ مَرْحَبًا فَأَخِرُّ سَاجِدًا فَيُلْهِمُنِى اللَّهُ مِنَ الثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ فَيُقَالُ لِى ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَقُلْ يُسْمَعْ لِقَوْلِكَ وَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِى قَالَ اللَّهُ (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) ». سنن الترمذى (3441 ) وهو حديث حسن
و عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَنْتَظِرُونَهُ قَالَ فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ فَسَمِعَ حَدِيثَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ عَجَبًا إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اتَّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلاً اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً. وَقَالَ آخَرُ مَاذَا بِأَعْجَبَ مِنْ كَلاَمِ مُوسَى كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا وَقَالَ آخَرُ فَعِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحُهُ. وَقَالَ آخَرُ آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ وَقَالَ « قَدْ سَمِعْتُ كَلاَمَكُمْ وَعَجَبَكُمْ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَمُوسَى نَجِىُّ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ وَهُوَ كَذَلِكَ أَلاَ وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَلاَ فَخْرَ وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حِلَقَ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُ اللَّهُ لِىَ فَيُدْخِلُنِيهَا وَمَعِى فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ فَخْرَ وَأَنَا أَكْرَمُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَلاَ فَخْرَ ». سنن الترمذى (3976 ) وهو حسن لغيره
و عَنْ أَنَسٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنِّى لأَوَّلُ النَّاسِ تَنْشَقُّ الأَرْضُ عَنْ جُمْجُمَتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ وَأُعْطَى لِوَاءَ الْحَمْدِ وَلاَ فَخْرَ وَأَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ وَإِنِّى آتِى بَابَ الْجَنَّةِ فَآخُذُ بِحَلْقَتِهَا فَيَقُولُونَ مَنْ هَذَا فَيَقُولُ أَنَا مُحَمَّدٌ. فَيَفْتَحُونَ لِى فَأَدْخُلُ ...َ » مسند أحمد (12804) وهو صحيح

وَصَاحِبُ الْحَوْضِ الْمَوْرُودِ(1) وَشَفِيعُ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2)
__________
(1) - عَنِ ابْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « حَوْضِى مَسِيرَةُ شَهْرٍ ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلاَ يَظْمَأُ أَبَدًا » . صحيح البخارى (6579 ) وأحاديثه متواترة
(2) - قلت : ونؤمنُ بالشفاعةِ التي أذنَ الله تعالى بها لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فله في القيامة عدة شفاعاتٍ:
-أما الأولى: فشفاعتُه في أهل الموقف كي يقضَى بينهم بعد أن يتراجعَ الأنبياءُ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام عن الشفاعةِ حتى تنتهي إلى نبينا محمدٍ عليه الصلاة والسلام. عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِى بَعْضٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ. فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ. فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ. فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ. فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- فَيَأْتُونِى فَأَقُولُ أَنَا لَهَا. فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى فَيُؤْذَنُ لِى وَيُلْهِمُنِى مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لاَ تَحْضُرُنِى الآنَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى. فَيُقَالُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ. فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى. فَيُقَالُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ. فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى. فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ. فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ». قَالَ « ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَقُولُ يَا رَبِّ ائْذَنْ لِى فِيمَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَيَقُولُ وَعِزَّتِى وَجَلاَلِى وَكِبْرِيَائِى وَعَظَمَتِى لأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ».( أخرجه البخاري ومسلم ) . وهي التي عناها القرآن الكريم بقوله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (79) سورة الإسراء
-وأمَّا الثانية: فيشفعُ في أهل الجنةِ أن يدخلوا الجنة، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالاَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَجْمَعُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاسَ فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلاَّ خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ اذْهَبُوا إِلَى ابْنِى إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ - قَالَ - فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلاً مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ اعْمِدُوا إِلَى مُوسَى -صلى الله عليه وسلم- الَّذِى كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا. فَيَأْتُونَ مُوسَى -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللَّهِ وَرُوحِهِ. فَيَقُولُ عِيسَى -صلى الله عليه وسلم- لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ. فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ وَتُرْسَلُ الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَتَقُومَانِ جَنَبَتَىِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالاً فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ ». قَالَ قُلْتُ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى أَىُّ شَىْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ قَالَ « أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِى طَرْفَةِ عَيْنٍ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ وَشَدِّ الرِّجَالِ تَجْرِى بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ حَتَّى يَجِىءَ الرَّجُلُ فَلاَ يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلاَّ زَحْفًا - قَالَ - وَفِى حَافَتَىِ الصِّرَاطِ كَلاَلِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ وَمَكْدُوسٌ فِى النَّارِ ». وَالَّذِى نَفْسُ أَبِى هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا.( أخرجه مسلم ) ،
- وأما الثالثة : فهي شفاعته في تخفيف العذاب عن بعض المشركين؛ كما في شفاعته لعمه أبي طالب، فيكون في ضحضاح من نار؛ فعنِ الْعَبَّاسَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رضى الله عنه -أنّهُ قَالَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - :مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ . قَالَ : « هُوَ فِى ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ ، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِى الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ » (أخرجه الشيخان) . لأنَّ الله أخبر أن الكافرين لا تنفعهم شفاعة الشافعين، ونبينا صلى الله عليه وسلم أخبر أن شفاعته لأهل التوحيد خاصة . فشفاعتُه لعمه أبي طالب خاصة به وخاصة لأبي طالب، وهذه الشفاعات الثلاث خاصة له عليه الصلاة والسلام .
- وأما الرابعة : فشفاعته فيمن استحق النار من الموحدين أن يخرج منها، أو لا يدخلها أصلاً ، وهذا النوع له صلى الله عليه وسلم ، ولسائر النبيين والصديقين والشهداء ونحوهم ممن أذنَ الله لهم، فيشفعُ فيمن استحقَّ النار ألا يدخلَها، ويشفعُ فيمن دخلَها أن يخرجَ منها، فعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، يُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ » (أخرجه البخاري) . و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « شَفَاعَتِى لأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِى ».( أخرجه أبو داود ) .
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذه الشفاعات كلها لثبوت أدلتها وأنها لا تحققُ إلا بشرطين :
الشرط الأول : إذن الله للشافع أن يشفعَ، كما قال تعالى : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } الآية ( 255 ) البقرة ، وقوله تعالى :{ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } الآية ( 3 ) من سورة يونس .
الشرط الثاني : رضا اللهِ عن المشفوع له كما قال تعالى : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى } الآية ( 28 ) الأنبياء ويجمع الشرطين قوله تعالى : { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شيئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى } الآية ( 26 ) النجم .
"وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ الْخَلْقِ جَاهًا عِنْدَ اللَّهِ لَا جَاهَ لِمَخْلُوقِ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ جَاهِهِ وَلَا شَفَاعَةَ أَعْظَمُ مِنْ شَفَاعَتِهِ .مجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 145)
"وَأَمَّا شَفَاعَتُهُ وَدُعَاؤُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَهِيَ نَافِعَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ شَفَاعَتُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي زِيَادَةِ الثَّوَابِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قِيلَ إنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبِدْعَةِ يُنْكِرُهَا . وَأَمَّا شَفَاعَتُهُ لِأَهْلِ الذُّنُوبِ مِنْ أُمَّتِهِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ "مجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 148)

وَصَاحِبُ الْوَسِيلَةِ وَالْفَضِيلَةِ (1)الَّذِي بَعَثَهُ بِأَفْضَلِ كُتُبِهِ(2)، وَشَرَعَ لَهُ أَفْضَلَ شَرَائِعِ دِينِهِ(3)
__________
(1) - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِى وَعَدْتَهُ ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ » . صحيح البخارى( 614 )
". فَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً . وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ هَذِهِ الْوَسِيلَةَ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَهُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَبْدَ وَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ أُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَهَا لِلرَّسُولِ وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ سَأَلَ لَهُ هَذِهِ الْوَسِيلَةَ فَقَدْ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَلَمَّا دَعَوْا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحَقُّوا أَنْ يَدْعُوَ هُوَ لَهُمْ فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ نَوْعٌ مِنْ الدُّعَاءِ كَمَا قَالَ إنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا."مجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 200)
(2) - قال تعالى : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) }[الإسراء/9-11]
هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم ، فيشمل الهدى أقواماً وأجيالاً بلا حدود من زمان أو مكان؛ ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق ، وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان .
يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور ، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض ، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة ، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء ، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق .
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه ، وبين مشاعره وسلوكه ، وبين عقيدته وعمله ، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم ، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض ، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله ، ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعاً بالحياة .
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة ، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء . ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار . ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال .
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض : أفراداً وأزواجاً ، وحكومات وشعوباً ، ودولاً وأجناساً ، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى؛ ولا تميل مع المودة والشنآن؛ ولا تصرفها المصالح والأغراض . الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه ، وهو أعلم بمن خلق ، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل ، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان .
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها ، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام .
إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
فهذه هي قاعدته الأصيلة في العمل والجزاء . فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه . فلا إيمان بلا عمل ، ولا عمل بلا إيمان . الأول مبتور لم يبلغ تمامه ، والثاني مقطوع لاركيزة له . وبهما معاً تسير الحياة على التي هي أقوم . . وبهما معاً تتحقق الهداية بهذا القرآن .
فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن ، فهم متروكون لهوى الإنسان . الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه وما يضره ، المندفع الذي لا يضبط انفعالاته ولو كان من ورائها الشر له :
{ ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً } . .
ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها . ولقد يفعل الفعل وهو شر ، ويعجل به على نفسه وهو لا يدري . أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه . . فأين هذا من هدى القرآن الثابت الهادئ الهادي؟
ألا إنهما طريقان مختلفان : شتان شتان . هدى القرآن وهوى الإنسان! اهـ في ظلال القرآن - (ج 5 / ص 8)
(3) - قال تعالى :{ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) }[الشورى/13، 14]
خصائص الشريعة الإسلامية
حاجة الناس إلى النظم والتشريع
الكائن الإنساني مدني بطبعه لا بد له من الاجتماع مع بني جنسه، ولذا قيل: الإنسان مدني بالطبع، إذ لا يتم للإنسان تحقيق حاجاته ومتطلباته المادية والنفسية إلا في ظل مجتمع من بني جنسه، فطعامه وشرابه ومسكنه، كل ذلك لا يمكن أن يقوم به وحده.. فقد لا يستطيع أن يكون مزارعاً وخبازاً وحداداً وحائكاً ومعلماً وغير ذلك في وقت واحد، فكان من تدبير الله عز وجل للخلق أن سخر بعضهم لبعض وجعل بعضهم في خدمة البعض كما قال سبحانه وتعالى: { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (الزخرف:32) . قال بعض المفسرين: أي ليرتفق بعضكم بعمل بعض وينتفع بعمله. ولا تحصل هذه المنفعة وهذا التسخير إلا بالاجتماع، فإذا اجتمع الناس حدث بينهم الاختلاف والتنازع والتجاذب لما رُكِّب في طبائعهم من حب الخير لأنفسهم واستئثار بعضهم عن بعض بالمنافع، فكان لابد من وازع يزجرهم عن التنازع والتكالب والتخاصم ويفصل بينهم ويبين لكل فرد حدوده وحقوقه وواجباته، فلا يطغى بعضهم على بعض ولا يبغي أحد على أحد.
والوازع المقصود هو النظم والتشريعات التي بموجبها يعرف كل فرد حقوقه وحقوق الآخرين فلا يعتدي عليها، ولا بد أيضاً من وجود سلطة تقوم بفرض النظم وإلزام الناس بها ومعاقبة الخارج عليها، وقد تعاهد الخالق العظيم عباده بالتشريعات المناسبة لهم في كل رسالة من الرسالات السماوية، وختم تلك الشرائع بشريعة سيدنا محمد عليه السلام.
أهمية النظام في الكون والحياة:
يمثل النظام في الكون والحياة ضرورة لا يمكن أن تستقيم الحياة بدونها، وقد تكرر الكلام عن آفاق الكون ومشاهد الطبيعة في القرآن الكريم تكراراً يلفت النظر، وأكثر سور القرآن تستعرض الكون بآفاقه الواسعة وأنواعه الكثيرة، وأقسامه المتعددة، وحركته الدائبة وحوادثه المتكررة، وأنَّه محكوم بنظام بالغ الدقة، ويجري وفق سنن مطردة، وحوادثه السابقة واللاحقة تأتي وفقاً لإرادة الله الأزلِّية، ولا يشذ عنها حادثة من الحوادث لا في الزمان ولا في المكان.. كما إنَّ التطور الذي يتم في الكون منضبط بنظام متقن متكامل.. متناسق مع نظام الحياة في غاية الإبداع.. فكل شيء في الحياة والكون مقدر وموزون ومحسوب، قال تعالى: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (القمر:49)
والسمة البارزة في عرض القرآن لموجودات الكون، أو ملكوت السموات والأرض، هي أن تعرض عرضا متنوعاً يدعو الإنسان بإلحاح وتحفيز للنظر والتأمل والتفكير في مجرى حوادثها، والدعوة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، قال تعالى:[ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ] (فصلت:37)
ويدخل الإنسان ضمن مخلوقا تالله بدءاً ونهاية فدراً وجماعة وأُمّة بل وأمماً في منظومة الوجود ونواميسه وعلله وأسبابه ومسبباته، فالكل خاضع لله، ويتحرك في نظام سنة الله { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ }(البقرة: من الآية116)
ورد في سورة (يس) ما يبين أهمية النظام، وأن الكون والحياة تسير وفق نظام في غاية الدقة والإعجاز، قال تعالى: (وءاية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرنه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون).
كذلك الإنسان وهو ذلك المخلوق المكرم الذي استخلفه الله - جل وعلا - في الأرض وسخر له الكثير من ملكوت السموات والأرض ليحقق الرسالة التي أنيطت به، وليسير نحو الغاية التي خلق من أجلها: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}(الذريات:56) فإنَّ هذه الرسالة وذلك التكليف لا يتأتي والغاية لا تتحقق في ضوء نظام يحدد مساره، وينظم علائقه، ويضبط أوضاعه، ويحل مسائله وقضاياه، وإلا سادت الفوضى وعمت الجهالة.
وقد استفاضت الآيات الكريمة في عرض قصة آدم عليه السلام، بما يبين أهمية النظام للإنسان وأنه لا يُمكن أن يجد النظام الملائم لفطرته والمتسق مع غايته والكفيل بإسعاده في الحياة الدنيا والآخرة إلا فيما جاء عن الله من الهدى، قال تعالى: ? وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تضمأ فيها ولا تضحى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليها من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى?.
ويرى بعض المهتمين بدراسة التاريخ البشري ودراسة علم الاجتماع والنفس والتربية، وكذلك النظم والتشريعات أن البشر قادرون على وضع التشريعات والنظم لقيام حياتهم وتحقيق وجودهم الإنساني المتميز، وينيطون ذلك بما وهبه الله للإنسان من عقل قادرٍ على عمل ذلك.
ومهما كانت المسوغات والمبررات لهذا الرأي فإنَّ نهاية التحليل تصل إلى حقيقة مستقرة ومسلَّمة نهائية جوهرها ولبها أن العقل البشري المجرد عن هداية الله وغير المتصل بوحيه تعالى إلى رسله لا يتأتى له ذلك بصفة شاملة كاملة مرتبطة بغاية وجود الإنسان ومتسقة مع حقائق الوجود، بل يقصر عن ذلك، وبيان أوجه قصوره في النقطة الآتية.
قصور العقل البشري عن التشريع
للعقل منزلة عظيمة، وبه يتميز الإنسان عن كثير من مخلوقات الله, وقد أولى الإسلام العقل اهتماماً بالغاً وعناية كبيرة، وجاء في آيات كثيرة تنويه الإسلام بالعقل كقوله تعالى: (أفلا تعقلون)، وقوله: (أفلا يعقلون) ونحوهما، فالعقل في الإسلام وسيلة إلى الإيمان، وهو مناطق التكليف، وبه يفهم الشرع وتكاليفه وأحكامه، وله مجالاته الواسعة وآفاقه العريضة التي سخرها الله للإنسان، ولكنه محدود بحدود طبيعية ومقيد بضوابط كثيرة، وإذا كانت له مجالات واسعة يمكنه أ، يبدع في مضمارها، وله طرائقه المنطقية الصحيحة في كثير من قضايا الحياة وميادين الفكر فإنه غير قادر على تشريع نظام كامل شامل يكفل سعادة الإنسان ويحقق غاياته العليا في الحياة والوجود إلاّ إذا أعمل في ضوء الوحي وبهديه؛ وذلك لأوجه القصور الملازمة له وأهمها:
أولاً: قصوره من ناحية الزمن، فالإنسان مهما نضج عقله، وبلغ من القوة منتهاها في إطاره الإنساني إلا أنه محدود بحدود زمنية وأخرى مكانية، لا يستطيع عقله تجاوزاه أيا كانت عبقريته، أما الحدود الزمانية فعلى افتراض أن الإنسان علم بحاضره الذي يعيش فيه، وعلم شيئاً عن الماضي بالدارسة والإطلاع فإنه لا يستطيع أن يدعي علم المستقبل، ومن الاستحالة على عقله علم ذلك، لهذا فإنَّ النظام الذي تصدى لوضع وتشريعه لو صلح على سبيل الافتراض فسيكون صلاحه في إطار فترة زمنية محدودة، ويكفي هذا الوجه من قصور العقل من الناحية الزمنية قادحاً في النظام الذي صدر عن عقل الإنسان؛ لأنه سيكون عرضة للجمود وعدم الصلاحية بمجرد مرور الزمن، فالغد يأتي بما لم يحط المنظر بعلمه، وعندئذٍ يكون التغيير أمراً لا مفرَّ منه، وقد يكون تغييراً شاملاً ومع التغيير المستمر يصبح النظام غير قادر على توفير الاستقرار والأمن النفسي للمجتمع لما يعتريه من التقلب المستمر والتضارب والتناقض؛ لأنه خضع لإطارٍ زمني ضيق.
إنَّ هذا القصور سمة لازمة للنظم البشرية، مِمَّا جعل الطريق غير مأمون على المجتمعات البشرية في ظل تنظيمها لنفسها.
ثانياً: قصور العقل البشري من الناحية المكانية حيث إنَّ عقل الإنسان محدود بالمكان الذي يعيش فيه، والبيئة التي خضع لمؤثراتها بصفة مباشرة أو غير مباشرة، وما يؤدي إليه ذلك من محدودية العقل وتركيزه على بيئته وجهله بالبيئات الأخرى. فإذا تصدى العقل البشري للتنظيم والتشريع فإنَّ ما ينتج عنه لو صلح - افتراضاً - لبيئة لن يصلح لغيرها...، وعلى هذا لن تتحقق الوحدة المتوخاه في النظم تلك الوحدة التي تعد أساساً في الشريعة؛ لأن البشرية متحدة في أصولها وفطرتها وغايتها، وإن تباعدت الأوطان واختلفت الألوان والألسنة والشعوب والقبائل، والوحدة مطلوبة لتعيش المجتمعات البشرية في سلام ووئام.
ثالثاً: قصور العقل البشري من حيث الإلمام بجميع الأطراف التي يتصدى لتنظيمها، وطبيعة من ينظم لهم، وتحقيق التوازن في ذلك كله؛ فالميل إلى طرف من الأطراف هي السمَّة الظاهرة على الفكر البشري، أو التركيز على جهة من الجهات، أو فكرة أو نزعة.. ونحو ذلك، استجابة لتأثير البيئة على المفكر، وتأثير النزعة التي تربَّى عليها، فمن ربيَّ على نزعة مادية تطرف إليها وصار نحوها، ومن ربيَّ على نزعة خياليَّة جنح إليها، وقد يميل المفكر إلى نزعة فردية ضد الجماعة، أو على حسابها، وقد يميل آخر إلى نزعة جماعية ضد مصلحة الفرد، لذلك فإنَّ ما يصدر عن الإنسان من نظام سيصطبغ بصبغة ذلك الإنسان نفسه، ويكون انعكاساً لنزعاته وأهوائه وميوله.
وقد ألمح ابن خلدون إلى ذلك حينما تحدَّث عن الملكات وذكر: (أنَّ من أحكم ملكه وأجادها ورسخت في نفسه لا يستطيع أن يجيد ملكه أخرى ويحكمها)، أي إن الإنسان لا يستطيع تحقيق التوازن وبلوغ درجة الإبداع حينما يتصدى للتنظيم، وهذا القصور لدى الإنسان يفرض عليه الميل في التفكير إلى فكرة يبدو له بريقها ثم لا يجيد الوصول إليها، وعندئذ يختل التوازن في النظم البشرية، ولعل (مدينة أفلاطون) إحدى النماذج الدَّالة على قصور العقل البشري، إذ أراد الخير لمجتمعه وشرع في التنظير له، ولكن بحكم قصور العقل البشري ومحدودية تفكيره أفرز نظاماً مدمراً حيث اشتمل نظامه ذلك على أن يقتل الأولاد الذين يولدون لآباء شريرين حتى يقضي على الشر في مجتمع الفاضل أو مدينته الفاضلة، وكان هذا النظام متأثراً بعقيدة باطلة تشربها (أفلاطون) من بيئته التي تعتقد بتوارث الشر، فترسبت هذه العقيدة في سويداء قلبه ومال إليها تفكيره، وتلونت بها شخصيته، وبالتالي دبَّت في نظامه فجاء نظاماً جائراً وتشريعاً ظالما، وكان من الممكن أن ينجو الفكر البشري من هذه دبَّت في نظامه فجاء نظاماً جائراً وتشريعاً ظالما، وكان من الممكن أن ينجو الفكر البشر من هذه الأفكار الخاطئة والنظم الجائرة لو اهتدى بنور الوحي فالله تعالى يقول: (ولا تزروا وازرة وزر أخرى).
ونزعة أخرى ظهرت في نظام (أفلاطون) بحكم اعتماده على عقله بعيداً عن هداية الوحي، فقد تطرَّف نظامه إلى النزعة الجماعية على حساب الفرد، وكان يرى (أنَّ وجود أي منفعة شخصية لفرد يهدم منفعة المجموع، ولذا يجب أن تنهار المصالح الفرديَّة ويقضى عليها... بحيث لا يجوز أن يكون لأي فرد في الأُمَّة منفعة شخصية تتميز عن منفعة مجموعها).
إنَّ (أفلاطون) أنموذجٌ من النماذج البشرية التي حاولت أن تنظم لمجتمعها استناداً على العقل البشري مستقلاً عن وحي الله فكان هذا التطرف الذي لم يستطع تحقيق التوازن بين المادَّية والروحَّية، ولا بين نزعة الفرد ومصلحة الجماعة، ولا بيت الواقع والخيال.
رابعاً: جهل الإنسان بحقيقته، إذا كان الإنسان الذي هو موضوع التنظيم، أو الأساس في التنظيم لا يزال مجهولاً عند نفسه فكيف يضع النظام الذي يكفل المحافظة على ضروراته ويلبي حاجاته ومتطلبات حياته بصفة شمولية متوازنة؟!، وكيف يؤمل فيه أن يكون مصيباً فيما يُشرع من نظام بمنأى عن الوحي الرباني الذي يصله بخالقه - عز وجل -.
إنَّ جهل الإنسان بحقيقة نفسه وطبيعة حاله حقيقة قررها العلماء المعنيون بدراسة الإنسان، وعلى سبيل المثال فإنَّ (الكسيس كاريل) وهو عالم مختص في مجال دراسة الإنسان، ألف كتاباً أسماه (الإنسان ذلك المجهول) أبان فيه أن الإنسان لا يفهم نفسه ككل، وهذا واضح في قوله: (لقد بذل الجنس البشري مجهوداً جباراً لكي يعرف نفسه، ولكن وعلى الرغم من أننا نملك كنزاً من الملاحظة التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمان، فإننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة - فقط - من أنفسنا... إننا لا نفهم الإنسان ككل).
ويواصل حديثه مبيناً أنَّ هناك قصوراً كبيراً في فهم الإنسان لطبيعته وأعماق نفسه، فيقول: (إننا نعرفه - أي الإنسان - على أنه مكون من مركب من الأشباح تسير في وسطها حقيقة مجهولة) ويؤكد فيما ذكر بأنِّ معرفة الإنسان بنفسه ما زالت بدائية.
إنَّ جهل الإنسان بنفسه كان السبب الأساسي في اختلاف النظرات إليه وتعدد مدارسها التي خبطت في قضاياه خيط عشواء، ففي حين ينظر إليه من خلال بعض تلك النظريات ومدارسها بأنّه إله وأنه سيد الكون، ينظر إليه من خلال جانبه المادي ويصنف في منزلة تقترب من منزلة الحيوانات..، وذاق الإنسان في ضوء هذه النظريات المتعارضة المتناقضة صنوفاً من المرارة، وأصبح الإنسان في العصر الحديث يعيش في أزمة طاحنة، تحدث عنها كثيرٌ من المفكرين وصرحوا بها في كتابات متنوعة، منها على سبيل المثال: ما ذكره (تشارلز فريكل) في قوله: (على الرغم مما حققه العصر الحديث من معجزات العلم والتكنولوجيا، إلا أن الثورة على الإنسان المعاصر الذي سيطر بعقله وعمله على الكون بدأت تشتد وتقوى، إذ أنه على الرغم من كل ذلك لم يحصل على السعادة ولا الطمأنينة، وما زالت قيمه في تخبط ووجوده مهدداً بالقلق).
جاءت هذه الأزمة التي تحدَّث عنها (تشارلز) وغيره من العلماء والمفكرين نتيجة طبيعية لاعتداء الإنسان بنفسه واعتماده على العقل فيما شرع لحياته من نظام لا يفي بمتطلبات الناس بصفة تكفل لهم السعادة المنشودة وتنسجم مع غاياتهم العليا ومنطلقاتهم الحقيقية لذلك أصبحت حياة الإنسان، وفي ظل تلك النظم متأزمة، وتحقق فيها قول الله - عزَّ وجلَّ - :(ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى).
لمحة موجزة عن حال الأمم في ظل بعض النظم البشرية
تعجز تشريعات البشر ونظمهم عن إسعاد الإنسان وتحقيق غايات وجوده ونشاطه الحضاري الشامل إذا انقطعت عن وحي الله و هدايته سواء في القديم أو الحديث.
أمَّا في القديم فهناك ثلاثة أمثلة تبين بجلاء أن الأمم في ظل النظم التي وضعتها عقول البشر لم تجن إلا الفوضى والقلق والاضطراب والظلم والجور:
الأول: النظام الروماني، فقد كان للمجتمع الروماني قانون منظم يوصف بأنه متقن في الصياغة والسيادة، وذلك في القرن الخامس الميلادي وهو المشهور باسم (مدونة جوستينان)، فماذا قدم هذا القانون للمجتمع الروماني ؟
لقد حمى الأشراف وقرر لهم حقوقاً ليست للضعفاء، وممّا قرره الآتي:
- إنَّ بعض الرعايا ممن ليسوا روماناً بالسلالة ليست لهم حقوق الرومان فهم كالعبيد يعملون لأجل الرومان، ولتشبع بطونهم.
- إنَّ العبيد لا يعاملون معاملة الآدميين.
- ليست للمرأة شخصية مستقلة بل هي في حكم المملوكة للرجل أباً كان أم زوجاً.
- تجميع الميراث في قريب واحد ويحرم منه الباقون.
فهذا النظام ليس مقتصراً على إنه طبقي فحسب بل يسلب حقوق الضعفاء ليزدادوا ضعفاً، ويعطيها الأقوياء ليزدادوا قوة على قوتهم.
الثاني: النظام الفارسي، ارتكز هذا النظام على دعوة دينية تعتمد تعاليم (زرادشت) وهي القول بتعدد الآلهة، أو إله الخير وإله الشر، وما انبنى على هذه العقيدة الفاسدة من الشريكات والتصورات الباطلة، كان من أبرزها دعوة (ماني) إلى التشاؤم المطلق، فقد دعا إلى فناء الإنسانية ليتخلص العالم من شرورهم، ثم أعقبه (مزدك) فزعن أن آثار المباغضة والعداوة المستمرة بين الناس، إنما تقع بسبب الأموال والنساء، فدعا إلى شيوعية الأموال والنساء حتى صار الرجل لا يعرف والده، ولا المولود يعرف أباه، ولا يملك شيئاً، فانهار المجتمع الفارسي بهذه الفوضى العارمة.
الثالث: الأعراف الجاهلية أو النظام الجاهلي في الجزيرة العربية : لم يكن العرب أسعد حالاً قبل الإسلام من غيرهم، ولم يكن لهم نظام جامع ولا وحدة تضمن شتات قبائلهم، وإن كانت القبيلة تخضع لكبير منها يفضل في النزاع الناشب بين أفرادها ونحو ذلك، وكان لهم جملة من الصفات الحميدة ومكارم الأخلاق، ولكن كانت العلاقات بين الناس يسودها الظلم والجهل والتفكك والثارات القبلية، والتبيعة للأمم الأخرى المجاورة لهم من فرس وروم، وكانت عصبية الجاهلية تسطير على المشاعر والمواقف، يقول الشاعر العربي:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ويقول الآخر:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غُزَّية أرشد
ولمَّا جاء الإسلام نهض العرب برسالة الإسلام فأصبحوا قادة العالم وأعلام الهداية، وجنود الحق والتوحيد، في ظل شريعة الإسلام الخالدة التي قام عليها تميز الأمة الإسلامية.
رابعاً: حال المجتمعات الغربية غير الإسلامية :أمَّا حال المجتمعات والأمم غير الإسلامية في العصر الحديث، تلك التي اعتمدت على العقل وتنكرت للدين وأهميته في سعادة الإنسان فإنها بما فيها من مذاهب فكرية متصارعة، ونظم متباينة إنما تعود في جذورها إلى ثقافات قديمة وتطبيقات جديدة شقي بها الإنسان في ظل القوانين الوضعية المختلفة، يقول (الدوكس هكسلي): (إنَّ ألعالم - الآن - يشبه قبيلة تعبد الشيطان، وتعيش في ظل قوانين جديدة قائمة على الشر والحقد، والمادية البحتة، التي تجرد الإنسان من كل مشاعر الإنسان بلا حُبّ بلا تعاطف، وتقوم على تبادلات الاتصال الجنسي على نحو ما تفعل السائمة).
واعترف (جاك مارتيان) بأهمية الوحي في تنظيم حياة البشر، ودعا إلى الاعتراف بعجز الإنسان عن وضع النظم الكفيلة بإسعاده وإخراجه من الأزمة المعاصرة، يقول: (إنَّ أيَّ مجتمع بشري يحتاج إلى الإنسان نفسه، وإلا سيكون طرفاً وقاضياً في الوقت نفسه، إذن لابدَّ لكي يحتفظ المجتمع البشري باستقراره وخضوعه للسلطة السياسية، ومن وجود حقائق مطلقة يسلم بها الأفراد جميعاً).
وقال عالم القانون الشهير (جورج هوايت كروس باتون): (إنَّ السبيل الوحيد للوصول إلى معايير متفق عليها هو الاعتراف بالوحي السماوي قانوناً).
إنَّ هذه الأقوال تلتقي مع الرأي الذي يعول على الوحي والدين السماوي في قضية التشريع، وأنَّ البشرية من فجر تاريخها اعتمدت على الشريعة الإلهية: (فالحقيقة أن تنظيم الحياة البشرية هو من المفاتيح العليا المقدسة لهذه الحياة، ولم يكن الله سبحانه وتعالى ليترك الناس عرضة للخطأ فيها وللتجارب الأليمة، فإنه في كل مرة يعدل الناس عن نظام إلى آخر تقوم الثورات والحروب والنكبات، وتراق الدماء، وتصادر الأموال، وتضطرب الأمور، وينقسم الناس، ولذلك فقد أهدى الله هذه الهديَّة الغالية، وهي بيان نظم حياتهم).
ومن هنا يتضح (أنَّ الدين منذ القدم ضرورة اجتماعية، والوازع الديني أقوى حافز على احترام القواعد التنظيمية في أية جماعة؛ ومنذ وجدت الجماعات البشرية اتجهت إلى السمو عن طريق النزعات الدينية)، و(أنَّ الديانات السماوية بدأت منذ بدء الخليقة، فالله سبحانه وتعالى منذ استخلف آدم على الأرض أوحى إليه أنه هو خالقه وبارئه، وخالق العوالم الأخرى من إنس وجن وحيوان وموجودات، وخالق الكون كله، كما أوحى إليه بحدود خلافته وذريته في الأرض، وبالقدر اللازم لتنظيم حاجاتهم كجماعة بدائية)، فالدين بشطريه (العقيدة الشريعة) أتى الإنسانَ من عندا لله وظلَّ على عقيدة التوحيد وشريعة الرحمن إلى حين. ثمَّ اقتضت حكمة الله أن ينشب الصراع بين الجاهلية والإسلام، وكلما استحكمت الجاهلية أو كادت بعث الله رسولاً يعيد الناس إلى شريعة الله حتى جاء خاتم الأنبياء وسيد المرسلين بالهدي التام والشريعة الكاملة، فكان منة الله على الأمَّة الإسلامية، قال تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم ءايته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)، ومما جاء في تفسيرها: (أنَّ الحكمة هي السنة، التي هي شقيقة القرآن، ووضع الأشياء موضعها، ومعرفة أسرار الشريعة، فجمع لهم بين تعليم الأحكام، وما به تنفيذ الأحكام، وما به تدرك فوائدها وثمراتها، ففاقوا بهذه الأمور العظيمة جميع المخلوقين وكانوا من العلماء الربانيين).تبينت ممَّا سبق أهمية النظام في الكون والحياة وحاجة البشر إلى ذلك، واتضح عجز الإنسان عن الإتيان بتشريع يتوافر له الشمول والكمال الذي يكفل للإنسانية ما يسعدها وينسجم مع غاياتها العليا وحقيقة وجودها، وتبين بالأدلة ضرورة الوحي الرباني وأهميته للاضطلاع بهذه المهمَّة، ومن أبرز ما يجلي ذلك هو ما وقع في تاريخ الإنسانية حيث كانت شريعة الله هي المنهاج الذي سلكه الرسل عليهم السلام وأتباعهم على مر العصور حتى جاءت شريعة الإسلام فكانت - هي مسك الختام - كاملة لا يعتريها نقص، شاملة لا يلحقها قصور.
وفي هذا يقول الشاطبي: (إنَّ هذه الشريعة المباركة معصومة، كما أنَّ صاحبها صلى الله عليه وسلم معصوم، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة)، وساق الأدلة على ذلك، وصنفها على وجهين:
الأول: ما دل على ذلك تصريحاً أو تلويحاً، واستدل بآيات من القرآن الكريم كقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، وكقوله تعالى (كتب أحكمت ءايته)، وقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، واستدل على هذا الوجه - أيضاً - ببعض أقوال السلف وما صاحب نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم وصونه عن تخليط الشياطين على الرسول صلى الله عليه وسلم واستراقهم السمع.
الثاني: ما توافر للأُمَّة الإسلامية من وعي وفكر وعمل ونحوها من دواعي المحافظة على الشريعة والذب عنها بدءاً بعنايتها بالقرآن الكريم وعلومه والسنة النبوية وعلومها، واللغة العربية وعلومها، وفي ذلك قال: (الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن، وذلك أن الله عز وجل وفر دواعي الأُمَّة للذب عن الشريعة والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل.
أمَّا القرآن الكريم فقد قيض الله له حفظه بحيث لو زيد فيه حرف واحد لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر، فضلاً عن القراء الأكابر، وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة، فقيض الله لكل علم رجالاً حفظه على أيديهم).
وتختص الشريعة الإسلامية إلى جانب ذلك بخصائص كثيرة جعلت منها نظاماً يصلح لكل زمان ومكان ويعلوا ولا يعلى عليه، من أهم هذه الخصائص الآتي:
أولاً: تنبثق الشريعة في الإسلام من عقيدة التوحيد الخالص لله وترتبط بها وتلازمها؛ لذلك فإنَّ ما سبق ذكره، من أنَّ الشريعة تطلق على مجموعة الأنظمة والقوانين إذا اتصفت بالانسجام لانبعاثها عن روح واحدة لا ينطبق إلا على الشريعة الإسلامية عند التحقيق؛ لأنها صادرة عن الله وانبثقت من عقيدة التوحيد التي تميزت عن سائر العقائد برؤيتها الشاملة للكون والحياة ولا يمكن أن يتحقق الانسجام التام في جميع النظم إلا في الشريعة الإسلامية، حيث لا يقتصر شمولها على تناولها جوانب حياة الإنسان ديناً وآخرة - فحسب - بل ينسجم مع سياق النظام الشامل للكون والحياة.
أمَّا من حيث ارتباطه بالعقيدة فإنَّ الآيات الواردة في تقرير أمور العقيدة كثيراً ما تناول قضية الحقوق والواجبات والأخلاقيات والآداب مثل قوله تعالى: ? ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون?.
قال بعض المفسرين في تفسيرها: (دخل في ذلك حقوق الله كلها، لكون الله ألزم بها عبادة والتزموها، دخلوا تحت عهدتها، ووجب عليهم أداؤها، وحقوق العباد، التي أوجبها الله عليهم، والحقول التي التزمها العبد..).
وعندما ينطق المسلم: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، (تأتي أهمية الشهادة الثانية خطورتها وضرورتها وهي محمد رسول الله، فمعناها عهد من الناطق بها على أنه يلتزم بالخضوع لله حسب ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فقط، ونبذ كل ما على الأرض من أساليب الخضوع لله كانت وضعية أو سماوية لأنَّ ذلك كله باطل من ناحية، كما أنه من الناحية العملية لا يحقق إفراد الله تعالى بالخضوع، كما لا يحقق الخضوع التام اللائق بألوهيته تعالى، لذلك لا تنفصل الشهادتان عن بعضهما، فلو أخذ فرد أو مجتمع الشهادة الأولى: "لا إله إلا الله" وترك الثانية، لما كان موحداً ولما أفرد الله بالألوهية ولما قصر الخضوع له إلا قولاً فقط، وشأنه شأن الظمآن الذي يرد أن يرتوي بالاقتصار على التلفظ بكلمة ماء. فلا سبيل ولا كيفية عملية لإفراد الله تعالى بالألوهية أو لتحقيق الشهادة الأولى إلا بالإيمان والعمل بمقتضى الشهادة الثانية "محمد رسول الله"، أي قصر التلقي والطاعة على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ورفض التلقي عن غيره والطاعة لمن سواه، باعتباره المبلغ الوحيد عن الله ولديه الوحي الأخير الذي لم يصبه تغيير أو تشويه أو تحريف، ففي الشهادة الأولى نبذ للأديان الوضعية والمذاهب الفلسفية والنظم الاجتماعية الجاهليَّة؛ لأن إفراد الله بالألوهية هو رفض الخضوع لغير أمره وتنظيمه، وفي الثانية، نبذ للأديان السماوية المحرفة التي تدعي نسبتها لله سبحانه وتعالى كاليهودية والنصرانية).
ومن مقتضى شهادة "محمد رسول الله" تنبثق الشريعة الإسلامية (فالعلاقة بين العقيدة والنظم في المجتمع المسلم علاقة وطيدة وثيقة... ولذلك لا يوجد مجتمع مسلم بدون عقيدة التوحيد الإسلامية، ولو تغيرت عقيدة التوحيد لانتهت النظم الإسلامية، أو أصابها التغير بقدر الانحراف عن التوحيد في نفوس الأفراد.. كما أنه من الخطأ البين وصف مجتمع بأنه مسلم.. أو موحد دون أن تكون نظمه إسلامية، أي دون تطبيق الشريعة الإسلامية في شتى جوانب حياته).
وأمَّا من حيث الانسجام مع النظام الشامل للكون والحياة، (فإنَّ جميع الموجودات في هذا العالم - من أكبر الأجرام الفلكية إلى أصغر الذرات - يخضع كل منها لقانونه الخاص الذي ينبع من ماهيته الذاتية ووجود الخاص كما أن هذا العالم المخلوق ككل وفي مجموعه يخضع أيضاً لناموس كلي يسير حسبه أيضاً.. وإلى تلك الربوبية الشاملة للكون المخلوق تشير الآية الأولى من فاتحة الكتاب (الحمد لله رب العالمين)... فكل شيء في الكون خاضع لقاعة معينة، ويسير في نشأته ونموه وفنائه حسب هذه القاعدة، سواء فلكاً أو جبلاً أو بحراً أو حيواناً أو إنساناً، وهذا معنى قوله تعالى: (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين)... [ومما تعنيه أيضاً] الكفالة والإصلاح والإدارة وتسيير الأمور وتنظيمها والسيادة والحكم وحيازة السلطة والأمر النافذ...، والإيمان بالربوبية يقتضي بالضرورة إفراد الله سبحانه وتعالى بالتشريع والتدبير والتنظيم في حياة البشر الفردية والاجتماعية وذلك يعني رفض أي نظام جاهلي وضرورة الاقتصار على النظام الاجتماعي الإسلامي، وموحد الربوبية هو من يرفض أن يتعامل مع الناس بغير التشريع الإلهي).
ثانياً: أنها ملزمة ولا يصح لأحد الخروج منها، قال الله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)، وقال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما)، وورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلم مسؤول عن رعيته...".
والآيات الواردة في ذلك والأحاديث مستفيضة؛ قال ابن القيم في تفسير قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك...) الآية: (أقسم سبحانه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل، ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكم بمجرده حتى ينفي عن صدروهم الحرج والضيق بقضائه وحكمه، ولم يكتف منهم بذلك أيضاً حتى يسلموا تسليماً وينقادوا انقياداً).
وذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب من نواقض الإسلام: (الاعتقاد بأن غير هدي الإسلام أكمل من هديه، وأن حكم غيره أحسن من حكمه،... ومن اعتقد أنَّ بعض الناس يسعه الخروج من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم).
ومقتضى ذلك أن تكون ناسخة لما قبلها، كفيلة بإيجاد الحلول الملائمة لكل ما يجد في حياة الأُمَّة الإسلامَّية من قضايا ومشكلات.
ثالثاً: الثواب والعقاب في الشريعة الإسلامية دنيوي وأخروي:
تقترن الأنظمة البشرية بجزاء توقعه عندما يقتضي الأمر ذلك في حق من يخرج عليها وتتعدد صور ذلك الجزاء ولكنه جزاء دنيوي، أمَّا الشريعة الإسلامية فإنها (تختلف معها في أن الجزاء فيها أخروي ودنيوي، بل أن الأصل في أجزيتها هو الجزاءُ الأخروي، ولكن مقتضيات الحياة، وضرورة استقرار المجتمع، وتنظيم علاقات الأفراد على نحو واضح بين مؤثر، وضمان حقوقهم، كل ذلك دعا إلى أن يكون مع الجزاء الأخروي جزاء دنيوي...).
والأمثلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة مثل قوله تعالى بعد ذكر أحكام المواريث: ?تلك حدود الله سورة النساء 13، 14. إلى عذاب مهين ?، وفي أجزاء قطاع الطريق قال تعالى: ? إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وارجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ?، ومما يترتب على الجزاء في الشريعة الإسلامية الخضوع لأحكامها (خضوعاً اختيارياً في السر والعلن خوفاً من عقاب الله) في حالة النهي والتحذير والطمع في الثواب في حالة الأمر والندب، إلى جانب ما يبعثه الجزاء في النفوس (من الهيبة والتأثير).
رابعاً: الشمول والإحاطة: فما من عمل يعمله الإنسان أو قول يقوله إلا والشريعة الإسلامية قد اتخذت منه موقفاً بعينه، تأمر به أو تنهى عنه، أو تندب إليه أو تكرهه، أو تجعله من المباحات ومن هنا كانت الأخلاق والعادات والأعمال، صغيرها وكبيرها مما تعنى به الشريعة الإسلامية أشد عناية حتى تلك الأمور التي يهتدي إليها الإنسان بفطرته كالأكل والشرب والنوم واللباس تضع الشريعة لها حدوداً وترسم لها أبعاداً، وما من علاقة تسود المجتمع بين أفراده، أو المجتمع المسلم من المجتمعات الأخرى إلا وضعت الشريعة لها نظاماً وحددت لها آداباً، وما من قضية تتصل بنظام الاجتماع الإنساني، من سياسة أو اقتصاد أو إدارة إلاّ وبينت الشريعة الإسلامية فيها الرأي الصائب والموقف السديد)، قال تعالى: ? ما فرطنا في الكتاب من شي ?، وقال تعالى: ? ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي ?.
وانطلاقاً من هذا الشمول وتلك الإحاطة قسَّم بعض العلماء اليوم الآخر...، وهذه هي الأحكام الإعتقادية، ومحل دراستها في علم الكلام أو التوحيد.
والثانية: الأحكام المتعلقة بالأخلاق كوجوب الصدق والأمانة والوفاء بالعهد، وحرمة الكذب والخيانة ونقض العهد، وهذه هي الأحكام الأخلاقية ومحل دراستها في علم الأخلاق والتصوف.
الثالثة: الأحكام المتعلقة بأقوال وأفعال الإنسان في علاقاته مع غيره، وهذه هي الأحكام العملية وقد سميت فيما بعد بـ(الفقه) ومحل دراستها أعلم الفقه.
والأحكام العملية بالنسبة إلى ما تتعلق به تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: العبادات كالصلاة والصوم، والمقصود بها تنظيم علاقة الفرد بربه.
القسم الثاني: العادات أي المعاملات، وهي التي يقصد بها تنظيم علاقات الأفراد فيما بينهم، وهذه تشمل جميع روابط القانون العام والخاص في الاصطلاح الحديث...).
ولا يعني هذا التقسيم أو أي تقسيم نحوه استقلال جانب عن غيره من جوانب الشريعة بل تتسم بالإحاطة والشمول من جانب آخر وهو (شمول الأخذ والتطبيق فمن خصائصها أنها لا تقبل التجزئة لأنها كل مترابط متداخل، كترابط الإنسان وتداخله في كيان واحد)، يؤثر بعضه في بعضه الآخر، ولا يصح (أن يؤخذ ببعضه ويترك بعضه؛ لأنه كل متكامل لا يمكن الاستغناء عن شيء منه بحال، ولا يستطيع نظام آخر من أنظمة البشر أن يحل محله أو محل بعضه أو يشاركه في تحقيق مصالح الناس).
وقد أنكر الله على الذين يلتزمون ببعض أحكام الشريعة ويطبقونها ويفرطون في بعض أحكامها الأخرى ولا يلتزمون بها، بل ربما عملوا بضدها، فقال تعالى: ? ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ?.
قال ابن كثير في تفسيرها: (يقول الله تبارك وتعالى منكراً على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج... فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه فيقتل اليهودي أعدائه، وقد يقتل اليهودي الآخر... وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم... ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة)، فدلَّ ذلك على أن الشريعة لا تقبل التجزئة، وأنَّها ملزمة ومرتبطة بالإيمان.
خامساً: أنّها مبنيَّة على مصالح العباد:
قال ابن قيم الجوزية: (هذا فضل عظيم النفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أنَّ الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإنَّ الشريعة ميناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدَّالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتَمَّ دلالة وأصدقها وهي نوره الذي أبصر به المبصرون، ,هداه الذي اهتدى به المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم).
وقال العز بن عبد السلام: (والشريعة كلها مصالح، إمَّا تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح)، والمستقرئ لأحكام الشريعة الإسلامية يخلص إلى هذه النتيجة من وجوه:
الأول: أن رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم بعامة جاءت رحمة للعالمين، قال تعالى: ? وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين?.، فيدخل في ذلك ضمناً (رعاية مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم).
الثاني: مجيء أحكام الشريعة - في جملتها - معللة بكونها تحقق مصالح الأمة وتدرأ عنهم المفاسد، كقوله تعالى: ? ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب?، وكقوله تعالى: ? وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم?، وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج"، هذه الأحكام في مجملها لم تأت في مواد محددة تنص على فعل أو ترك وإنما جاءت معللة بما به حياة النفوس وذكر الغاية من التشريع وأنه في مصلحة الأمة إما بجلب مصلحة أو دفع مفسدة في العاجل أو الآجل (لإعلام المكلفين إن تحقيق المصالح هو مقصود الشارع).
الثالث: اتسام أحكام الشريعة باليسر ورفع الحرج، ومن الأمثلة على ذلك (تشريع الرخص عند وجود مشقة في تطبيق الأحكام من ذلك إباحة النطق بكلمة الكفر عند الإكراه عليها حفظاً لمصلحة في رمضان للمسافر والمريض ونحو ذلك. ولا شك أن دفع المشقة ضرب من ضروب رعاية المصلحة ودرء المفسدة).
ومن يسر الشريعة التدرج في التشريع والتمهيد له وتخفيف بعض الأحكام بالنسخ ونحوه.
وقد توصل الفقهاء إلى وضع ضوابط فقهية تنطلق في مجملها، وتتسم تفاصيلها باليسر ورفع الحرج عن المكلفين، وخصصوا لها تباً مستقلة من أبرزها (كتاب تأسيس النظر للدبوسي الحنفي، وكتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام لعز الدين بن عبد السلام الشافعي، وكتاب القواعد لابن رجب الحنبلي)، (والقواعد الفقهية.. تصوير جميل للمبادئ الفقهية وضبط الفروع، وقد اكتسبت هذه القواعد صياغتها عن طريق التداول بين الفقهاء).
ومن أبرز هذه القواعد الآتي:
- اليقين لا يزول بالشك.
- المشقة تجلب التيسير.
- الضرر يزال.
- العادة محكمة.
الرابع: التفاوت في النظر إلى الأحكام وتقسيمها من حيث مقاصدها، (وجد بالاستقراء أن مصالح العباد تتعلق بأمور ضرورية أو حاجية أو تحسينية، فالأولى هي التي لا قيام لحياة الناس بدونها، وإذا فاتت حل الفساد وعمت الفوضى واختل نظام الحياة، وهذه الضرورات هي "حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل"، .. والحاجيات هي التي يحتاج إليها الناس ليعيشوا يسر وسعة، وإذا فاتتهم لم يختل نظام الحياة ولكن يلحق "المكلفين - على الجملة - الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة... أما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق"، ... وإذا فاتت هذه - أيضاً - فلا يختل نظام الحياة ولا يصيب الناس حرج ولكن تخرج حياتهم عن النهج الأقوم وما تستدعيه الفطر السليمة والعادات الكريمة، والشريعة جاءت لتحقيق وحفظ الضروريات والحاجيات التحسينات، وبهذا حفظت مصالحهم).
وبناء على ذلك فإن الأحكام الشرعية تتفاوت بصفة وأخرى بحسب درجة تلك المقاصد، وتسعى لتحقيقها في عامة الأمة (بدون حرج ولا مشقة، فتجمع بين مناحي مقاصدها في التكاليف والقوانين مهما تيسر الجمع، فهي ترتقي بالأمة من الأدون من نواحي تلك المقاصد إلى الأعلى بمقدار ما تسمح به الأحوال وتيسر حصولها وإلا فهي تتنازل من الأصعب إلى الذي يليه مما فيه تعليق الأهم من المقاصد)، وهذا الوجه يسهم في (دوام أحكام الشريعة للعصور والأجيال).
ومهما تشعبت آراء الفقهاء في تفاصيل المقاصد وتطبيقاتها إلا أن هناك قدراً مشتركاً - في الأعم الأغلب - فيما بينهم حول (أهمية الاعتماد على الكليات التشريعية وتحكميها في فهم النصوص الجزئية وتوجيهها، وهو نوع من رد المتشابهات إلى المحكمات، والجزئيات إلى الكيات، فكليات الشريعة ومقاصدها العامة، هي أصول قطعية لكل اجتهاد، ولكل تفكير إسلامي).
ويرى بعض الباحثين أن ما أقدم عليه علماء الأمة بعد الصدر الأول من تاريخها من (بيان علل الأحكام وغايات الإسلام مقاصد الشريعة وأهدافها، فبينوا أن لكل حكم من أحكام الإسلام وظيفة يؤديها وغاية يحققها وعلة ظاهرة أو كامنة يعمل لإيجادها، ومقصداً وهدفاً يقصده ويستهدفه لتحقيق مصلحة للإنسان أو دفع مفسدة ومضرة عنه)، إن ذلك كله وما دار في إطاره يمكن الاعتماد عليه كمنهج في فهم الشريعة الإسلامية وبخاصة ما تميز به الشاطبي في هذا المضمار، وأن ما سمي بـ(نظرية المقاصد عند الشاطبي) يمكن أن يعاد لها الاعتبار (ولابد من وضعها في المقام الأول، ثم يرتب ما عدها عليها. وهذه خطوة ضرورية لإعاد ةتشكيل العقل المسلم، ولإعادة ترتيب موازينه وأولوياته، ذلك أن من أهم مظاهر أزمة العقل المسلم: اختلال الموازين والأولويات التي وضعها الإسلام في نصابها، فوقع فيها - على مر العصور - تقديم وتأخير، وتفخيم وتقزيم، على خلاف وضعها الحق).
وفي ختام هذا يحسن ان نربط بين الشريعة الإسلامية بخصائصها ومنطلقاتها وغاياتها وبين ما قاله ابن منظور في معناها اللغوي من أن (العرب لا تسميها شريعة حتى يكون الماء عدا لا انقطاع له، ويكون ظاهراً معيناً لا يسقي بالرشاء)، فإن المعنى متحقق في الشريعة الإسلامية وهي بخصائصها التي سبق شرح مجملها تعد القمة في تاريخ الأمم والشرائع عندما أنزل الحق تبارك وتعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وسيد المرسلين قوله تعالى: ? الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً? (المائدة:3) ، وكانت حكومة الرسول صلى الله عليه وسلم النموذج الأمثل في تطبيق الشريعة، والسلطة السياسية التي تنفذاه وتشرف على تطبيقها؛ دستورها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم سارت الأمة الإسلامية منذ عهد الصحابة والسلف الصالح وحتى العصر الحاضر وإلى أن يأتي أمر الله في ظل هذه الشريعة الخالدة، (ومن الحقائق المسلمة أن الشريعة الإسلامية قد وضعت العالم الإسلامي كله على تنائي أطرافه، وتعدد أجناسه، وتنوع بيئاته الحضارية، وتجدد مشكلاته الزمنية... وأنها - بمصادرها ونصوصها وقواعدها - لم تقف يوماً من الأيام مكتوفة اليدين، أو مغلولة الرجلين، أمام وقائع الحياة المتغيرة.. وأنها ظلت القانون المقدس الممول بها تشريعاته الوضعية...)، ثم استمرت بعض تلك القوانين كأثر من آثار الاستعمار ولأسباب أخرى، منها الاعتماد على بعض التأويلات للنصوص الشريعة التي تنص على وجوب تطبيق الشريعة بما يبرر هذا الواقع، ومنها الجهل بمكانة الشريعة وشمولها وكمالها، ومنها التأثر بالثقافة الغربية والغزو الفكري ومخططات أعداء الأمة الإسلامية.
على أن هناك أسباباً أخرى تعود لما أصاب الفقه الإسلامي في بعض أطواره من (الضعف والركود والتوقف عن سيره الأول شيئاً فشيئاً، [والجنوح] إلى التقليد والتزام مذاهب معينة لا يحيد عنها ولا يميل حتى وصل الحال إلى الإفتاء بسد باب الاجتهاد).
ومما ينبغي ذكره في هذا الصدد أنه على الرغم من هذا الواقع فإن هناك جهوداً قام بها بعض الفقهاء ومجتهدي الأمة من خلال المؤلفات التي أنجزوها والتجديد الذي سلكوه.
وفي العصر الحديث ظهرت اهتمامات تمثلت في (دراسة الفقه الإسلامي دراسة مقارنة وإظهار مزاياه وخصائصه وكثرة التأليف في مباحثه وظهور المبرزين فيه الجامعين بين الثقافة القانونية والثقافة الشرعية)، وعلى الرغم مما يكتنف هذه الاهتمامات من المخاوف والمحاذير إلا أن الأمل معقود في (أن يزداد الاهتمام بالشريعة الإسلامية وفقهها حتى تعود إلى مكانتها الأولى وتسترد سيادتها القانونية، وتمد هي والفقه الإسلامي [الأمة الإسلامية] بالتشريعات اللازمة في جميع شؤونها كما كان الأمر في السابق).
وكما شهد بعض رجال الديانة النصرانية ورعاياها بفضل الشريعة الإسلامية وما تتسم به من الرحمة والعدل والإحسان والمساواة في بداية انتشار الإسلام فقد دار التاريخ دورته، وعاد المنصفون من الغربيين ليؤكدوا الشهادة ذاتها.
فأما في بداية انتشار الإسلام، و(لما بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن بقيادة أبي عبيدة كتب أهالي هذه البلاد المسيحيون إلى العرب يقولون: يا معشر المسلمين ! أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، إنكم أوفى لنا وأرأف بنا، وأكف عن ظلمنا، وأحسن ولاية علينا).
وأما في العصر الحديث: (فهذا مؤتمر القانون المقارن المعقود في لاهاي سنة 1937م الذي حضره مفكرون وباحثون من الغرب ومن مختلف أنحاء العالم وشاركوا فيه، يقرر:
1- اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع العام.
2- اعتبار الشريعة الإسلامية شريعة حيَّة.
3- اعتبارها قائمة بذاتها ليست مأخوذة عن غيرها).
كما أظهر كبار رجال القانون والفكر في الغرب إعجابهم بذلك، يقول (ماك برايد): (من هنا ومن هذا البلد الإسلامي [أي المملكة العربية السعودية] يجب أن تعلن حقوق الإنسان لا من غيره من البلدان، وإنه يتوجب على العلماء المسلمين أن يعلنوا هذه الحقائق المجهولة عند الرأي العام العالمي، والتي كان الجهل بها سبباً لتشويه سمة الإسلام والمسلمين والحكم الإسلامي عن طريق أعداء الإسلام والمسلمين...).
وقال آخر: (إني بصفتي مسيحياً أعلن أنه هنا في هذا البلد الإسلامي يعبد الله حقيقة، وأن أحكام القرآن في حقوق الإنسان: هي بلا شك تفوق على ميثاق حقوق الإنسان)

، وَجَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ(1)



ليست هناك تعليقات: