الجمعة، 2 سبتمبر 2011


هكذا تحدثت تحية عبد الناصر (1)
-
http://www.shorouknews.com/uploadedImages/Sections/Politics/Egypt/gamal-wife.jpg
 صورة الزفاف التى التقتطها عدسة المصور ارمان يونيه 1944

   تقدم تحية عبد الناصر نفسها فى هذه المذكرات التى كتبتها بخط منمق وجميل كزوجة لزعيم كبير قررت أن تكتفى بدور الزوجة والأم، راضية مرضية، ومن ثم يمكن تصنيفها على أنها سيرة حياة عائلية هادئة وسلسة تماما، على الرغم مما كان يحيط ببطلها من عواصف وأعاصير وزلازل سياسية اهتز لها العالم بأسره.

وفى أحلك اللحظات وأصعبها وأكثرها شراسة لم تكن السيدة تحية إلا تلك الزوجة المحبة والأم العظيمة، تمارس حياتها ببساطة مدهشة، تذهلك أحيانا بتواضعها اللانهائى حين تصطحب أطفالها وهى زوجة الزعيم الذى كان حديث العالم فى ذلك الوقت إلى مصيف متواضع بالإيجار فى الإسكندرية دونما بهرجة أو ترتيبات بروتوكولية.

غير أن أجمل ما فيها أنها لم تصطنع لنفسها دورا كبيرا ولم تقتطع لنفسها مساحة فى التاريخ، فقط اكتفت بدور زوجة الرئيس وحكت ما عاشته ورأته طوال الرحلة بأسلوب غاية فى البساطة لم يخل من بعض اللقطات الطريفة التى تعبر عن روح ساخرة أحيانا.

وعلى الرغم من كونها «مذكرات زوجة» إلا أنها لم تخل من بعض اللمحات السياسية، خصوصا ما يرتبط بعلاقة جمال عبدالناصر برفاقه الثوار، فهى مثلا فى المرحلة الأولى من حياتها – قبل إعلان الثورة- كانت ترى أشياء شديدة الغموض فى بيت زوجها ومع ذلك لا تحاول أن تتدخل أو تلح فى السؤال، مكتفية بما قد يبوح به عبد الناصر من أخبار أو إيضاحات لبعض ما يجرى.

ومن أجمل ما تضمه هذه الذكريات تلك الشاعرية والحميمية التى تتحدث بها تحية عبد الناصر عن منزلها، وهم ثلاثة منازل فى الحقيقة عاشت فيها كل حياتها مع الرئيس، الأول كان قبل قيام الثورة وتصفه حجرة حجرة، وركنا ركنا، بمنتهى الإعزاز، وهو المنزل الذى خرجا منه شبه مطرودين بعد أن أبلغتها صاحبة البيت أثناء غياب جمال فى حرب فلسطين أنها تريد أن تبنى طابقا آخر فوق مسكنهما.
 
أما المنزل الثانى فقد كان فى كوبرى القبة وبقيا فيه حتى أيام الثورة الأولى، حتى قرر «الرئيس» مغادرته إلى منزل آخر لاعتبارات المنصب حيث لم يعد مناسبا أن يبقى زعيم الثورة ساكنا فى مبنى مشترك مع سكان آخرين.

والغريب أن أيا من هذه البيوت الثلاثة لم تختره السيدة تحية لكنها أحبتها كلها.

يبقى فى هذه المذكرات أنه فى بعض المحطات المهمة آثرت زوجة الرئيس أن تمر عليها سريعا، وبعض هذه المحطات شديد الأهمية من حيث سخونة أحداثها ودراميتها، إلا أن هذا المرور السريع هو فى حد ذاته دال وموحٍ وكاشف تماما لشخصية سيدة محترمة بدرجة زوجة مفجر لأكبر ثورة فى النصف الأخير من القرن العشرين.

اليوم 24 سبتمبر سنة 1973.. بعد أربعة أيام ستكون الذكرى الثالثة لرحيل القائد الخالد جمال عبد الناصر..
زوجى الحبيب. لم تمر على دقائق إلا وأنا حزينة.. وهو أمام عينى فى كل لحظة عشتها معه.. صوته.. صورته المشرقة.. إنسانياته.. كفاحه.. جهاده.. كلامه.. أقواله.. خطبه.. مع الذكريات أبكيه بالدموع أو أختنق بالبكاء.

وحتى إذا ضحكت فشعورى بأنى مختنقة بالبكاء مستمر لقد عشت مع جمال عبدالناصر ثمانى سنوات قبل الثورة، وثمانية عشر عاما بعد قيامها فى 23 يوليو سنة 1952 لقد تزوجنا فى 29 يونيو سنة 1944 أى عشت معه ستة وعشرين عاما وثلاثة أشهر، فبالنسبة لى الآن أعيش مرحلة ما بعد رحيله.
 
لقد عشت معه مرحلتين قبل الثورة وبعدها، والمرحلة الثالثة وهى التى أعيشها بعد رحيله ولم يرها.

آه ما أصعبها.. يالها من مرحلة قاسية من كل الوجوه فراقه وافتقادى له.. لم أفتقد أى شىء إلا هو ولم تهزنى الثمانية عشر عاما إلا أنه زوجى الحبيب أى لا رئاسة الجمهورية ولا حرم رئيس الجمهورية.
لقد عشت هذه السنين الطويلة قبل رحيل الرئيس لقد اعتدت أن أقول الرئيس لأنى أشعر أنى لا أستطيع أن أقول غير الرئيس ــ وسأظل أقولها.. كانت مليئة بالمفاجآت، بل كانت كلها مفاجآت وأحداث، لكنها بالنسبة لى لم تكن صعبة، بل كنت سعيدة مرحة.
 

وفى أصعب المآزق التى كنت أشاهدها كنت أحيانا أضحك من المصيبة التى ربما تحل بى، لكنها الحمد لله كلها مرت على خير.

لقد فكرت فى الكتابة عن حياتى مع جمال عبد الناصر فى أول مرة، وكان فى سوريا أيام الوحدة فى سنة 1959، وأمضيت ما يقرب من ثلاث سنوات أكتب باستمرار عما مضى وعن الحاضر، لكنى فى يوم قلت: لم أكتب؟ وكان الرئيس يعلم أننى أكتب وكان مرحبا.

غيرت رأيى وقلت فى نفسى: لا أريد أن أكتب شيئا، وتخلصت مما كتبت، وأخبرت الرئيس، فتأسف وقال لى: لم فعلت ذلك؟ فقلت له: إنى سعيدة كما أنا ولا أريد أن أكتب شيئا، وقلت: ربما تكلمت عن حقائق تحرج بعض الناس، وتكون متصلة بحقائق كنت أراها تدور أمامى، فقال لى: افعلى ما يريحك. إننى كتبت عما أذكره من مواقف ومفاجآت مما كان يحصل فى بيتنا، وما كنت أسمعه وأشاهده بعينى، وما كان يقوله لى الرئيس. وقررت ألا أكتب أبدا، وقلت له: أنا مالى.. وضحكنا.

فى العام الماضى قررت أن أكتب وأنا أعلم جيدا أن الرئيس كان آسفا لأنى لم أستمر فى الكتابة
 
وتخلصت مما كتبت، فأنا أعيش الآن وكأنه موجود بجانبى لا أتصرف أو أفعل شيئا كان لا يحبه، ولو كنت أعلم أنه لا يريدنى أن أكتب شيئا ما فعلت.
 
بدأت أكتب وأعيش مع ذكرياتى، لكنى لم أتحمل فكنت أنفعل والدموع تنهمر، وصحتى لم تتحمل، فوضعت القلم وقلت سأتوقف عن الكتابة، ولأبقى حتى أرقد بجانبه.. وتخلصت مما كتبت مرة ثانية.
 
لكنى وجدت أن لى رغبة فى الكتابة فى ذكراه الثالثة.. فلأتحمل كل ما يحصل لى.

بما أننى أتكلم الآن عن المرحلة الثالثة.. أى بعد رحيل الرئيس فلأتحدث.. فأنا أعيش فى منشية البكرى.. بيت الرئيس جمال عبدالناصر مع أصغر أبنائى عبد الحكيم ــ الطالب بكلية الهندسة جامعة القاهرة ــ ويبلغ من العمر الآن ثمانية عشر عاما وثمانية أشهر، وهو الذى طلب منى أن أكتب وألح فى أنه متشوق لمعرفة كل شىء عن والده العظيم. وكان حكيم قد طلب من المسئولين شرائط خطب والده ليسمعها، لأنه لم يكن عنده فرصة لسماع كل أقوال القائد الخالد بصوته، إذ كان طفلا، وبعضها قبل أن يولد.. إنه هو الذى يسعى بنفسه فى الحصول عليها، فقد طلب أولا من رئيس الوزراء وهو صديق لنجله فوعده، وطلب من رئيس الجمهورية وقابله بنفسه ووعده، وسألنى أن أشترى الشرائط لتسجلها الإذاعة، فقلت له: إنى على استعداد لأن أدفع أى ثمن. وأخيرا قابلت وزير الثقافة صدفة فسألته عن الشرائط، فقال لى: لم يطلب منى أحد، ووعدنى بأنه سينظر فى الأمر.. أرجو أن تصل ابنى عبدالحكيم الشرائط قريبا إن شاء الله.

بعد رحيل الرئيس ألاقى تكريما معنويا كبيرا من كل المواطنين الأعزاء فجمال عبد الناصر فى قلوبهم، وما يصلنى من البرقيات والرسائل والشعر والنثر والكتب الكثيرة من أبناء مصر الأعزاء، ومن جميع الدول العربية والغربية أى من كل العالم، وما يصلنى من البرقيات لدعوتى للسفر لزيارتهم من رؤساء الدول الصديقة، وبتكرار الدعوة أو زيارتهم لى عند حضور أحد منهم، أو إرسال مندوبين عنهم من الوزراء ليبلغونى الدعوة.. لدليل التقدير والوفاء.

وعندما أخرج أرى عيون الناس حولى.. منهم من يلوح لى بيده تحية، ومنهم من ينظر لى بحزن، وأرى الوفاء والتقدير فى نظراتهم.. كم أنا شاكرة لهم. وأحيانا أكون فى السيارة والدموع فى عينى فتمر عربة بجانبى يحيينى من فيها.. أشعر بامتنان.
 

وغالبا ما أكون قد مررت على جامع جمال عبد الناصر بمنشية البكرى. إنى أرى هذه التحية لجمال عبد الناصر.. وكل ما ألاقيه من تقدير فهو له.


جمال يتقدم لتحية

فلأتكلم الآن عن ذكريات من حياتى مع جمال عبد الناصر.. كيف عرفنى وتزوجنى؟

كانت عائلتى على صداقة قديمة مع عائلته، وكان يحضر مع عمه وزوجته التى كانت صديقة لوالدتى، ويقابل شقيقى الثانى، وأحيانا كان يرانى ويسلم على . فعندما أراد أن يتزوج أرسل عمه وزوجته ليخطبانى، وكان وقتها برتبة يوزباشى، فقال أخى ــ وكان بعد وفاة أبى يعد نفسه ولى أمرى ــ إن شقيقتى التى تكبرنى لم تتزوج بعد.

وكان هذا رأى جمال أيضا، وقال: إنه لا يريد أن يتزوج إلا بعد زواج شقيقتى.. إن شاء الله يتم الزواج، وبعد نحو سنة تزوجت شقيقتى.

بعدها لم يوافق أخى على زواجى.. لقد كانت تقاليد العائلة فى نظرى أن لى الحق فى رفض من لا أريده ولكن ليس لى الحق فى أن أتزوج من أريده، وكنت فى قرارة نفسى أريد أن أتزوج اليوزباشى جمال عبد الناصر.

بعد شهور قليلة توفيت والدتى فأصبحت أعيش مع أخى وحيدة إذ كان أخى الثانى فى الخارج.
كان أخى يتولى إدارة ما تركه أبى الذى كان على جانب من الثراء، وكان أخى مثقفا إذ كان من خريجى كلية التجارة أى يحمل بكالوريوس، ويشتغل فى التجارة والأعمال المالية والصفقات فى البورصة، وكان شديدا فى البيت محافظا لأقصى حد لكنه فى الخارج كانت له حياته الخاصة.

مكثت مع أخى بضعة شهور وأنا وحيدة تزورنى شقيقاتى من وقت لآخر، وفى يوم زارتنا شقيقتى وقالت: إن عم اليوزباشى جمال عبد الناصر وزوجته زاراها وسألا عنى، وقالا لها: إن جمال يريد الزواج من تحية، وطلبا أن تبلغ أخى.. فرحب أخى وقال: إننا أصدقاء قدماء وأكثر من أقارب، وحدد ميعادا لمقابلتهم، وكان يوم 14 يناير سنة 1944.
 

قابلت جمال مع أخى، وتم تحديد الخطوبة ولبس الدبل والمهر وكل مقدمات الزواج بعد أسبوع، وطبعا كان الحديث بعد أن جلست فى الصالون فترة وخرجت.
 

وفى يوم 21 يناير سنة 1944 أقام أخى حفلة عشاء.. دعونا أقاربى، وحضر والده وطبعا عمه وزوجته، وألبسنى الدبلة وقال لى إنه كتب التاريخ يوم 14 يناير.. وكان يقصد أول يوم أتى لزيارتى، ثم أضاف أنه عندما زارنا لم يحضر لرؤيتى هل أعجبه أم لا ــ كما كانت العادة فى ذلك الوقت ـ هذا ما فهمته من كلامه معى.

قال له أخى: إن عقد القران يكون يوم الزفاف بعد إعداد المسكن، على أن يحضر مرة فى الأسبوع بحضور شقيقتى أكبرنا أو بحضوره هو، وطبعا كان وجود أخى فى البيت قليلا فكانت شقيقتى تحضر قبل وصوله. وقبل جمال كل ما أملاه عليه أخى، وقد أبدى رغبة فى الخروج معى طبعا بصحبة شقيقتى وزوجها فلم يمانع أخى.


لاحظت أنه لا يحب الخروج لنذهب لمكان مجرد قعدة أو نتمشى فى مكان، بل كان يفضل السينما وأحيانا المسرح.. وكان الريحانى، وكنت لم أر إلا القليل فكل شىء كان بالنسبة لى جديدا.. أى لا يضيع وقتا هباء بدون عمل شىء، وكل الخروج كان بالتاكسى، والمكان الذى نذهب اليه السينما أو المسرح يكون بنوار أو لوج، وكنا نتناول العشاء فى بيتنا بعد رجوعنا. بعد خمسة أشهر ونصف تم زفافى لليوزباشى جمال عبد الناصر.. يوم 29 يونيو سنة 1944.أقام لى أخى حفلة زفاف.. بعد عقد القران مباشرة خرجت مع جمال للذهاب للمصور
 

«أرمان»، وكان قد حجز موعدا من قبل، كانت أول مرة أخرج معه بدون شقيقتى وزوجها. ملأنا عربة بأكاليل الورد لتظهر فى الصورة، وقد نشرت بعد رحيله فى السجل الخاص بصور جمال عبدالناصر الذى قدمه الأهرام.

رجعنا البيت لنقضى السهرة، وفى الساعة الواحدة صباحا انصرف المدعوون وانتهى حفل الزفاف، وكنا جالسين فى الصالون ــ هو وأنا ــ فدخل شقيقى ونظر فى ساعته وقال: الساعة الآن الواحدة فلتبقوا ساعة أخرى أى حتى الساعة الثانية، ولم يكن هناك أحد حتى أقاربى راحوا، وكان باديا عليه التأثر فقال له جمال: سنبقى معك حتى تقول لنا روحوا. وفى الساعة الثانية صباحا قام أخى وبكى، وسلم على وقبلنى وقال: فلتذهبا.. أما أنا فانحدرت من عينى دمعة صغيرة تأثر لها جمال.

وأذكر فى مرة وكنا جالسين على السفرة وقت الغداء وكل أولادنا كانوا موجودين وجاءت ذكرى أخى فقال الرئيس لأولاده وهو يضحك: الوحيد فى العالم الذى أملى على شروطا وقبلتها هو عبد الحميد كاظم.. وضحكنا كلنا.


إلى منزل الزوجية

لم أكن رأيت المسكن من قبل ولا الفرش أو الجهاز كما يسمونه، وكان فى الدور الثالث. صعدنا السلالم حتى الدور الثانى ثم حملنى حتى الدور الثالث.. مسكننا، وكان طابقا بأكمله، وله ثلاثة أبواب.. باب على اليمين وباب على اليسار وباب على الصالة. الأول يوصل لحجرة السفرة، والثانى لحجرة الجلوس، والثالث.. وهو باب الصالة فى الوسط. وجدنا البيت كله مضاء..مكون من خمس غرف. أمسك جمال بيدى وأدخلنى كل حجرات المنزل لأتفرج عليه، وقد أعجبنى كل شىء وأنا فى غاية السعادة. صرفت فى تأثيث المنزل مما ورثته من أبى.. وكان لا يقارن بثراء أخى.

بدأت حياتى بسعادة مع زوجى الحبيب وكنا نعيش ببساطة بمرتب جمال، وتركت أخى وثراءه ولم أفتقد أى شىء حتى التليفون.. لم أشعر أن هناك شيئا ناقصا ونسيته.

أول مرة خرجت كان بعد ثلاثة أيام من زواجنا.. ذهبنا للمصور أرمان لنرى بروفة الصور، وكانتا اثنتين قال لى جمال: اختارى التى تعجبك.. واخترت الصورة التى هى معلقة فى صالون المنزل فى منشية البكرى مع صور أولادنا الآن.


كانت عائلتى على صداقة قديمة مع عائلته، وكان يحضر مع عمه وزوجته التى كانت صديقة لوالدتى، ويقابل شقيقى الثانى، وأحيانا كان يرانى ويسلم على . فعندما أراد أن يتزوج أرسل عمه وزوجته ليخطبانى، وكان وقتها برتبة يوزباشى.








هكذا تحدثت تحية عبدالناصر(2)
-
 جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر .. الصديقان فى بواكير الثورة

كنا فى إجازة طويلة إذ كان جمال يشغل منصب مدرس فى الكلية الحربية.. قال لى إنه سيبدأ المذاكرة فى أول نوفمبر ليحضر لامتحان القبول فى كلية أركان حرب. مكثنا أسبوعين فى القاهرة.. كنا كأى زوجين نخرج ونستقبل الزوار.. أغلبهم من الأقارب يحضرون للتهنئة، ولاحظت أنه يفضل السينما.. وأنا أيضا أفضلها. بعد أسبوعين سافرنا إلى الإسكندرية ومكثنا هناك أسبوعين

كانت الإسكندرية فى ذلك الوقت مليئة بالإنجليز إذ لم تكن الحرب قد انتهت بعد.. فكانت الأماكن مزدحمة والشوارع تكاد تكون مظلمة بسبب الحرب والغارات، وأذكر مرة وكنا نمشى على الكورنيش وكان مظلما وأنا خائفة وأنا أرى الإنجليز يمشون بكثرة.. فكان يضحك ويقول: كيف تخافين؟
رجعنا للقاهرة وكنا مازلنا فى الإجازة نخرج سويا، وزرنا شقيقاتى، وكانت شقيقتى التى تزوجت قبلى فى المستشفى، حيث وضعت طفلة (ليلى).. بعد عشرين عاما حضر الرئيس والمشير حفلة زواجها، وكانا شاهدى عقد القران.

كانت زياراتى لأخواتى قليلة جدا وهن يسكن الجيزة، ولم يكن سكن أخى بعيدا مثل الجيزة لكن وجوده فى البيت كان قليلا. لم يزرنا أحد من أصدقائه الضباط وقال: إنه أخبرهم بأنه سوف لا يتصل بأحد منهم طول مدة الإجازة، فكل وقته كان يقضيه معى، والصديق.
 

الذى ذكر اسمه أمامى وقال إنه كان معه فى منقباد هو عبدالحكيم عامر، وقال: إنه الآن فى بلده المنيا مع زوجته يقضى الإجازة، وقد أخبره أيضا ألا يتصل به أو يزوره الا بعد انتهاء الاجازة.


انتهت الاجازة وابتدأت زيارات الضباط.. وحضر عبدالحكيم عامر من المنيا وزار جمال فى البيت.
كان رأى جمال فى الاختلاط أنه لا يحبه.. بمعنى أن الضباط والأصدقاء يحضرون ومعهم زوجاتهم وأجلس معهم، بل كان إذا حضر أحد ومعه زوجته يقابله بمفرده ويصافحه ثم يصطحب الزوجة إلى الصالة ويدخل لى فى الحجرة ويقول: توجد سيدة فى الصالة فلتسلمى عليها وتجلسى معها حتى تنتهى زيارة زوجها. وكنت غالبا لا أسلم على الضيف إذ كان يخرج من باب الصالون وتخرج زوجته وينصرفان.. فإذا أراد جمال أن أزورها يقول لى أن أذهب لزيارتها بمفردى.. فطبعا إذا زارتنى السيدة مرة أخرى تزورنى بمفردها، ولا يتكرر حضور الضيف مع زوجته.


اليوزباشى جمال عبدالناصر مدرس فى الكلية الحربية وله نوبتشية.. أى يبيت مرة فى الأسبوع فى الكلية، وأحيانا مرة فى أكثر من أسبوع حسب نوبات المدرسين. عند ذهابه للكلية فى الصباح أحيانا يخرج مبكرا جدا لدرجة أنه كان يستعمل بطارية صغيرة عند نزوله السلالم ويضعها فى جيبه، ورغم أنه يوجد فى السلالم إضاءة إلا أنه كان يستعمل البطارية، وكان يطلب منى ألا أقوم ولا أجهز شيئا وبإلحاح لدرجة أنى كنت أشعر أنى إذا قمت سأضايقه.. ويقول: سوف أتناول إفطارى فى الكلية، وأحيانا يخرج متأخرا يعنى قبل الثامنة بقليل فالكلية قريبة من منزلنا.
 


كان منظما فى كل شىء، ولا يحب أن يساعده أحد فى لبسه، وكان عند رجوعه البيت يخلع البدلة ويعلقها بنفسه على الشماعة ويضعها فى الدولاب، ودائما فى حجرة النوم الشماعة التى هى قطعة من موبيليا الحجرة ومازالت موجودة فى حجرته، وهى مصممة بحيث يسهل وضع الملابس عليها، وكنت أبدى رغبتى فى مساعدته لكنه كان لا يقبل.


بدأ شهر نوفمبر.. وبالتحديد فى أول يوم منه وبدأ جمال فى المذاكرة.. يرجع من الكلية الساعة الواحدة بعد الظهر أو بعدها بقليل ونتناول الغداء فى الواحدة والنصف، وأيام يرجع للكلية بعد الظهر، وأيام يظل فى البيت حسب نظام التدريس. نظم وقت المذاكرة.. يبتدئ الساعة الثالثة بعد الظهر حتى المغرب أو بعده بقليل، ثم يحضر زوار.. وأغلبهم من الضباط، يقابلهم ويجلس معهم ولا يحضرون كلهم مع بعض.. يعنى واحد يجىء وواحد يذهب، وأحيانا يكون اثنين أو ثلاثة مع بعض، ثم بعد ذلك إما أن يبقى فى البيت أو يخرج.. إما بمفرده أو مع زائر أو اثنين. وابتدأت أميز الأصوات، وعرفت صوت عبدالحكيم عامر إذ كانت له طريقة فى كلامه وضحكه.. ثم يرجع البيت إما مبكرا أو متأخرا لكن لا يتأخر كثيرا.


كانت المذاكرة فى حجرة السفرة.. يضع الدوسيهات والمراجع والأوراق وخرامة الأوراق، إذ كان يعد الدوسيه الذى سيذاكر فيه بنظام وترتيب. ولاحظت أنه يكتب كثيرا فى مذكرته، ويتناول العشاء معى إذا كان فى البيت ولم يخرج أو خرج ورجع مبكرا.
 

وعندما يقترب موعد الامتحان كان يظل يذاكر حتى الصباح، ويتناول عشاءه ساندويتش أثناء المذاكرة.
قال لى: إن دخول كلية أركان حرب ليس بالسهل، وأصعب شىء فيها هو دخولها إذ العلوم كلها باللغة الإنجليزية والمدرسون إنجليز، وكل سنة يتقدم عدد كبير من الضباط ولا ينجح إلا عدد قليل إذ كان الامتحان على مرتين.. يعنى تصفية. أول امتحان ينجح عدد ثم الثانى ينجح منهم عدد ويرسب عدد، وعلى ذلك فلا يدخل كلية أركان حرب كل سنة إلا عدد قليل، وأول امتحان كان فى شهر مايو يعنى بعد ستة أشهر.


كان يتردد عليه الضباط أحيانا، وهو يذاكر فكنت أراه يسمع خبطة الباب فيفتح الباب من حجرة السفرة، وأراه يدخل الصالة ثم يدخل الصالون ويُدْخِل الضيف من باب الصالون الذى على السلالم، ثم يحضر ضيف آخر يدق الباب فألاحظ أنه يخرج إلى الصالة ويدخل حجرة السفرة ويُدْخِل الضيف الآخر حجرة السفرة من بابها، ويمكث مع أحد الضيفين فترة حتى يذهب وغالبا لا يمكث كثيرا، ثم يذهب للضيف الآخر أى لا يجمع بين الاثنين، ثم بعد ذلك يرجع للمذاكرة.
 


كان بعض الضباط يحضرون ويمكثون فى حجرة السفرة معه وهو يذاكر، وهم يذاكرون معه أحيانا.
 
وكان يجهز الدوسيهات الخاصة بكلية أركان حرب من المراجع الكبيرة الكثيرة التى كانت أغلبها باللغة الإنجليزية. وكنت أسمع خرامة الأوراق وهى «تتكتك» لترتيب الدوسيهات، واذا سمعت حديثا ــ وبعضهم يكون صوته عاليا ــ يكون كله عن العلوم، وأكثرهم مذاكرة معه صديقه عبدالحكيم عامر.
كان يخرج معى يوم فى الأسبوع وغالبا السينما، وكان الموسم قد بدأ بالأفلام الجديدة فى سينما مترو، ريفولى إلى آخره.. فكان يحجز التذاكر من قبل ليختار المكان الذى يفضله، ويطلب أن أكون جاهزة للخروج فى وقت يحدده لى، وذلك بدون أن أطلب منه الخروج معه، بل هو نفسه الذى رتب يوما للخروج معى. استمر الحال على ذلك حتى شهر مايو، ودخل الامتحان ونجح وكان ترتيبه الرابع، وهو كما قال لى امتحان تصفية.



يكره نظام المراسلة


ابتدأت أشعر بحمل فاصطحبنى لدكتور مشهور فقال لى: إنه يجب أن يتابعنى مدة الحمل، فكان جمال يذهب معى كل شهر حسب تعليماته. لم يكن عندنا مراسلة أى العسكرى، الذى يكون مع الضابط فى منزله، إذ كان جمال يكره نظام المراسلة ويقول: إنه نظام خاص بالضابط فقط، لكن البعض ــ وهم الأغلبية ــ يعاملونهم كخدم للأسرة وأكثر، لأنه لا يملك أن يشتكى أو يتظلم إذا ثقل عليه الشغل أو عومل بقسوة أو أن يترك المنزل ويبحث عن شغلة أخرى، وكنت على رأيه، كما كان يعتبر أن فى الطريقة هذه امتهانا لكرامة وعزة الجندى.

كنت أقوم بتجهيز البدلة الرسمية بنفسى.. النجوم والأزرار أعطيها للشغالة تلمعها، وأنا أركبها فى البدلة إذ كانت فى ذلك الوقت تركب بدبل نحاسية. وأذكر أنه مرة كان يزورنى قبل الزفاف وكان يرتدى البدلة العسكرية.. فسألته عن النجوم التى على الأكتاف وكيف هى معلقة.. فأدار الجزء الملحق بكتف البدلة وأرانى فوجدتها دبلا نحاسية تعلق من ثقوب صغيرة بالنجمة التى بها زردية صغيرة وقال: ها هى.. وطبعا ضحكنا.

سافرت الشغالة لبلدها فى الريف، وكان لا بد أن يكون أحد فى المنزل، فأحضر جمال مراسلة وقال لى: إنه خاص به يقوم بلوازمه ويشترى لنا ما يلزمنا فقط، فكنت أنفذ رغبات جمال بدقة وأنا سعيدة ومقتنعة بكل شىء يقوله. وكان المجندون فى ذلك الوقت من أسر فقيرة أو أولاد الفلاحين المعدمين الذين يشتغلون فى أراضى الملاك الأغنياء، ولم يستطيعوا أن يدفعوا عشرين جنيها «البدلية».
استمر جمال فى المذاكرة لدخول الامتحان فى ديسمبر والضباط وغير الضباط يحضرون واحدا بعد الآخر أو اثنين، وأحيانا يجتمع عدد كبير يملأ الصالون ويمكثون وقتا طويلا، وعند حضورهم لا يحضرون فى وقت واحد ولا ينصرفون فى نفس الوقت أيضا. وهذه الاجتماعات كانت على فترات أكثر من أسبوع، فكان فى الأيام الأخيرة قبل الامتحان يذاكر حتى الصباح، وكان عدد من الضباط يحضرون ويدخلون حجرة السفرة، وأكثرهم مذاكرة معه عبدالحكيم عامر، وفى مرة أحضر معه زوجته لتبقى معى وهو يذاكر مع جمال.
 

وفى الأيام الأخيرة قبل الامتحان حضر ضابط اسمه زكريا محيى الدين.. كان يدخل لجمال وهو يذاكر فى حجرة السفرة، وكنت أسمعه وهو يدقق فى فهم العلوم ويكرر، وقد ميزت صوته أيضا من تدقيقه فى الفهم وترديده الجملة، وقال لى جمال عنه إن والده يملك عزبة وإنه لم يتزوج بعد، وكان يحضر بعربته الخاصة الجديدة.

امتحن المتقدمون لدخول كلية أركان حرب ونجح عدد قليل بالنسبة للمتقدمين، لا أذكر عددهم بالضبط لكنه لم يكن أكثر من ثلاثين.. نجح جمال وعبدالحكيم وزكريا.


مولد هدى

كنت فى آخر أيام الحمل.. وعندما شعرت بأعراض الوضع وكان الوقت ليلا ذهبت مع جمال مستشفى الدكتور المشهور الذى كان يباشر حالتى، وظل فى المستشفى دون أن يخبر أحدا من أخواتى حتى الثامنة صباحا وقت مولد هدى ابنتنا فى 12 يناير سنة 1946. وبعد أن هنأنى قال: سأخبر شقيقتك بالتليفون ثم أذهب للبيت لأنام.

دخل جمال كلية أركان حرب وكانت ومدة الدراسة سنتين.. قلت ساعات المذاكرة وازداد حضور الضيوف.. يجيئون فى أى وقت بعد رجوعه من الكلية قبل الغداء وبعد الغداء وفى أثناء تناوله الغداء. وكان يدخلهم الصالون ويترك السفرة ويقول لى: فلتكملى غداءك وسآكل بعد ذلك، فكنت أنتهى من تناول الغداء وبعد خروج الضيف ــ وغالبا لا يمكث الا وقتا قصيرا ــ أسأله فى تناول الغداء ولا يأكل إلا القليل، لكنه أبدا ما أكل مرة ثانية.

كان يدخل حجرة النوم ليستريح بعد الغداء لكنه قلما كان يبقى فى السرير أكثر من دقائق أو ربع ساعة أو نصف ساعة على الأكثر.. ويدق الباب ويدخل زائر الصالون فيقوم ويقابل الضيف، وبعد انصرافه يرجع الحجرة ثم يحضر ضيف آخر وهكذا. أحيانا يخرج بعد تناوله الغداء مباشرة ثم يرجع البيت، ويحضر ضيف ثم يخرج مرة ثانية إما مع الضيف أو بمفرده بعد انصراف الضيف.

للآن، لم ألحظ أى شىء غير عادى أو سرى. وكنت أرى مسدسات يحضرها معه وأضعها بنفسى فى الدولاب، إذ كنت أراها شيئا عاديا وهو ضابط.
فى ليلة قال لى ــ وكانت الساعة العاشرة مساء ــ إنه سيخرج ويرجع عند الفجر، وعندما أدق على الباب تفتحين لى، وقال: سأدق ثلاث دقات هكذا.. ودق بطريقة معينة وحفظتها، وقال: حتى تصح من النوم وتفتح الباب. وقال إنه سيحضر اجتماعا يتحدثون فيه فكنت أنام وأفتح باب الحجرة حتى أسمعه عند حضوره.. وأعرف دقته على الباب وأميزها ولا أخطئها، وطبعا تكرر خروجه ورجوعه فى هذا الوقت عدة مرات.
 

كنت سعيدة ولم يضايقنى أى شىء.. وأرى فى عينيه الحب والإعزاز، وكان يداعب هدى كثيرا ويحملها ويدخلها للضيوف لدقائق.. وأشعر بسعادة وأتمنى أن أعمل كل ما أستطيع لإراحته.


جمال الإنسان


سنة 1946.. فى آخرها مرض عبدالحميد شقيقى بصدره «درن»، ومكث فى البيت راقدا فى السرير، وأخى الثانى كان يسكن فى بيت آخر بعد رجوعه من الخارج.. يعنى كل بمفرده، وكنت فى حملى الثانى وكانت زياراتنا له قليلة، وبعد مرضه كان جمال يزوره كثيرا ويجلس معه، وكان يقول لى كثيرا عند رجوعه البيت بالحرف: أنا عديت على أخوكى، فكنت أسأله عنه، وطبعا كان يطمئننى ويقول: مكثت معه نتحدث، على عكس أقاربى.. قلت زيارتهم له، وعندما يزورونه يكون ذلك بتحفظ.. يعنى من باب الحجرة. وكان جمال يقول: إزاى واحد يخاف من مريض يعديه بالمرض! أنا عمرى ما خفت ولا فكرت فى عدوى من مريض، إنه شىء غير إنسانى.
دخل أخى المستشفى وأجريت له جراحة فى رئته، وعندما خرج من المستشفى وفى نفس اليوم زاره جمال فى المساء وبقى معه حتى الثالثة صباحا ــ وكنت أوشكت على الوضع وعندما رجع للبيت قال لى: أنا من وقت ما خرجت وأنا جالس مع عبدالحميد إذ وجدت شقيقاتك عنده، وكان تعبا يتنفس بصعوبة، ووجدت أخواتك يرحن واحدة بعد الأخرى وأخاك فى حالة صعبة فقلت: كيف أتركه وهو لا يستطيع التنفس بسهولة..وشقيقاته ذهبن.. سوف أبقى معه.

وكان يطلب منى أن أذهب فقلت له: إنى باق معك، وقبل الثالثة صباحا قال لى: أنا الآن أتنفس بسهولة وأشعر براحة، وطلب منى أن أروح وقال: سأتناول كوب لبن.. فقلت له: سأظل معك حتى تتناوله.. وكان جمال مندهشا من شقيقاتى وكيف أنهن تركنه.
 


بعد أن تحسنت حالة أخى وخرج من المستشفى زار شقيقاتى وقال لهم: أكثر واحد فى الدنيا أحبه وأقدره هو جمال عبدالناصر.. إنه أكبر إنسان قابلته فى حياتى وأحبه أكثر منكن.



شاهد ..هكذا تحدثت تحية عبدالناصر (3)

-
http://www.shorouknews.com/uploadedImages/Sections/Politics/Egypt/abdel-nasser.jpg
 والده وعمه وشقيقه وهدى ومنى وخالد .. بعد جراحة الزائدة 
 عندما كان جمال عبدالناصر محاصرا فى الفالوجة أثناء حرب فلسطين كانت زوجته وابنتاه هدى ومنى مهددات بالطرد من المنزل الذى استأجره فى مصر الجديدة.

و بعد أن عاد جمال من الحرب اقتيد من منزله للتحقيق بمعرفة رئيس الوزراء إبراهيم عبدالهادى ولم يتركوه إلا بتدخل جاره رئيس الأركان فى ذلك الوقت عثمان باشا المهدى، وكانت التهمة حيازة أسلحة وذخيرة فى منزله.

تروى السيدة تحية عبدالناصر فى هذه الحلقة من «ذكريات معه» والتى تصدر فى كتاب عن دار الشروق الأسبوع المقبل يومياتها أثناء غياب الزوج فى حرب فلسطين وكيف التقت عبدالحكيم عامر ورأته أول مرة ليسلمها خطابا من زوجها الذى علمت بالمصادفة من الجيران أنه كان أسيرا.

اليوزباشى جمال عبدالناصر فى كلية أركان حرب يقضى مدة الدراسة، والوقت شهر مايو سنة 1948، قال: سنتخرج فى الكلية خلال أيام بعد أن قُدِّمَ موعد التخرج أسبوعا، والبدلة الرسمية سيكون عليها شارة حمراء.. وهى شارة أركان حرب توضع تحت الشارة العسكرية.. أرجو تجهيزها، فخيطتها بنفسى وكنت فى غاية السعادة. وتخرَّج فى الكلية وأصبح اليوزباشى أركان حرب جمال عبدالناصر.. هنأته بحب وإعزاز.

بعد يومين قال لى: جهزى كل ملابسى لأنى سأسافر إلى فلسطين فى خلال يومين لمحاربة اليهود.. فكانت مفاجأة لى وبكيت وحزنت جدًّا.. قال: لماذا تبكين؟ فقلت له: كيف لا أبكى؟.. وكنت عندما يخرج أظل أبكى. بعد تجهيز الشنط لمحته يضع أربطة ومعدات إسعافات للجروح وكان يخفيها حتى لا أراها.

بدأت الحرب يوم 15 مايو سنة 1948، وفى يوم 16 مايو الساعة السابعة صباحا غادر جمال البيت وأنا أبكى، وعندما خرج من الباب، وكان ينزل السلالم مسرعا وقفت أبكى وأنظر له وهو ينزل السلالم، وكان المراسلة قد سبقه، وعربة جيب منتظرة على الباب.. وحضر أشقاؤه لتوديعه قبل سفره.

كنت مع ابنتى هدى.. سنتان وخمسة أشهر، ومنى.. سنة وأربعة أشهر، وكانت الشغالة قد سافرت إلى بلدها منذ أسبوعين. وقال لى جمال قبل سفره: يجب أن تكونى حذرة فى اختيار الشغالة، والأحسن أن تكون يعرفها أخواتك.

كانت تزورنى زوجة أحد الضباط، وكانت قد طلبت زيارتى بعد مولد هدى لتهنئنى وتسكن قريبة من منزلنا، وزوجها هو حمدى عاشور.. بقى فى القاهرة ولم يسافر إلى فلسطين، فكان يرسل لى المراسلة الخاص بهم لشراء ما يلزمنى كل يوم.

رجع أشقاؤه إلى الإسكندرية إذ كانوا لا يزالون فى الجامعة وفى وقت الامتحانات، وحضر والده لزيارتنا وبقى معى مدة حوالى شهر، وبعد ذلك كان يحضر أحد أشقائه أو اثنان منهم حيث كان وقت الإجازة.
 
لم يهمنى أى شىء.. وكان الذى يشغلنى الحرب وأخبار جمال، وكنت أتلهف على تسلم خطاب منه وأفرح جدّا عند تسلمى الخطاب، وبعد ما أقرؤه أقول فى نفسى: من يدرى ماذا حصل بعد كتابته الخطاب؟! وأقلق من جديد وأجلس وحدى أحيانا أبكى.

فى خطاب بتاريخ 18 مايو:

«أرجو أن تكونى بخير مع الأنجال العزيزات أما أنا فكل شىء يدعو للاطمئنان...».
 
وفى خطاب بتاريخ 22 مايو سنة 1948:

«أنا فى أحسن حال ولا يشغلنى سوى راحتكم والاطمئنان عليكم وأرجو أن أراكم قريبا فى أحسن حال..».
 
وفى خطاب بتاريخ 24 مايو سنة 1948:

«أكتب إليك الآن ولا يشغلنى أى شىء سوى راحتكم وأرجو أن تكون شقيقتك قد أحضرت لك شغالة.. أوصيك على هدى ومنى والمحافظة الشديدة عليهما...».
 

وفى خطاب بتاريخ 9 يونية سنة 1948:

«إن شاء الله نجتمع قريبا فى أحسن حال بعد النصر بإذن الله...».

طلب منى فى خطاب أن أذهب عند أخى وحدد وقتا ليكلمنى بالتليفون. ذهبت بمفردى وتركت هدى ومنى مع شقيقه وانتظرته حتى تكلم.. وسأل عن هدى ومنى وطمأننى، وقال إنه سيكلمنى فى الأسبوع المقبل فى نفس الميعاد.. وذهبت وكلمنى وقال لى: سأكلمك كل أسبوع.

ذهبت ــ كما قال ــ وانتظرت على التليفون لكنه لم يتكلم.. ثم قال لى فى خطاب إنه لم يجد فرصة ليكلمنى لأنهم لا يمكثون فى مكان، وقال: سأكلمك، وحدد موعدا. ذهبت وانتظرت ولم يتكلم أيضا هذه المرة. وقال فى خطاب: لم أكلمك نظرا لانشغالى.

وفى خطاب بتاريخ 23/7/1948 قال:

«وحشنى منزلنا جدّا وإن شاء الله سأحضر قريبا.. وبالمناسبة فى يوم 20 رمضان سأحصل على رتبة صاغ».. وفى خطاب آخر قال لى إنه سيأخذ إجازة لمدة ثلاثة أيام.. كانت فرحتى عظيمة.. حضر وكان قد مضى على سفره ثلاثة أشهر ونصف الشهر.

جرح من رصاصة أثناء الحرب 

رأيت علامة جرح حديث وخياطة فى صدره من الناحية اليسرى، سألته ما هذه؟ فقال: إنها لا شىء.. دى حاجة بسيطة.. وسكت. ثم وجدت فى الشنطة قميصا وفانلة ومنديلا بها دماء غزيرة فنظر وقال: إنه أصيب وهو فى عربة حربية، وهذا أثر جرح من رصاصة خبطت أولا فى حديد العربة الحربية الأمامى الذى لا يزيد عرضه على بضعة سنتيمترات، مما خفف الإصابة إذ انكسرت منها قطعة دخلت فى صدرى.. والحمد لله بعيدة عن القلب بمكان صغير، ومكثت فى المستشفى أياما قليلة.. وأرانى القطعة وقال: سأحتفظ بها والملابس المخضبة بالدماء.. حكى لى كل ذلك ببساطة. وضعتها فى مكان كما هى، وكان بها خروم مكان دخول القطعة.

مكث جمال ثلاثة أيام زارنا خلالها كل أفراد العائلة، وذهبنا إلى السينما مرة وانتهت الإجازة.. وعند سفره بكيت فقال إنه سيحضر مرة كل شهر. ولقد كان يرسل لى خطابات منتظمة، وبعد شهر حضر فى إجازة ثانية، وطبعا كانت الفرحة العظيمة يوم حضوره، ومكث الثلاثة الأيام ثم رجع لفلسطين.. وكانت الإجازة يوم 14 سبتمبر وانتهت يوم 17 منه.

حصار الفالوجة

رجع عبدالحكيم عامر من فلسطين إلى القاهرة.. وكان قد سافر أيضا وجرح فى يده وأخذ إجازة. ذهبت لزيارة عائلته فقابلنى وقال: إن جمال الحمد لله بخير وبصحة جيدة. وكان عبدالحكيم رقى أيضا إلى رتبة يوزباشى وأخبرنى أن جمال سيحضر إن شاء الله قريبا فى إجازة، وكان عيد الأضحى اقترب.

وكنت أول مرة أرى فيها عبدالحكيم عامر ويصافحنى ويتحدث معى.. حلَّ عيد الأضحى وانتهى ولم يحضر جمال، وكانت الخطابات تصلنى إلا أنها أصبحت على فترات أطول عما قبل، ولم يذكر لى ميعاد حضوره فى إجازة.. فكنت قلقة أقرأ الجرائد وأسمع الراديو. طلبت من شقيقتى أن تسأل زوجها فأخبرها بأنهم الآن فى مكان بعيد مقطوع عنه الاتصال، ولا توجد قطارات تذهب إلى هناك.

قبل سفره أعطانى جمال شيكات لصرف راتبه من بنك مصر. وفى خطاب بتاريخ 17/10/1948 قال: إنى حولت لحسابك بالبنك الأهلى مبلغ... شهريا يمكن تسلمه فى أول ديسمبر. وأضاف: أرجو أن تكونى مطمئنة ولا تنشغلى إلا بنفسك وهدى ومنى وهذا هو طلبى منك.. وأرجو أن أراكم إن شاء الله قريبا فى أحسن حال. وأنا ذاهبة للبنك الأهلى قابلتنى سيدة جارة لشقيقتى فسلمت علىَّ وسألتنى: هو زوجك لسه فى الأسر؟ هذا ما قالته لى بالحرف.. فذهلت وقلت لها: إنه ليس أسيرا، إنه فى مكان بعيد.. وطبعا حالتى كانت صعبة جدّا.

مكثت فى البيت وأنا فى منتهى الحزن، وكانت جارتى التى تسكن تحت مسكننا ابنة رئيس هيئة أركان حرب الجيش فى ذلك الوقت، وهو عثمان باشا المهدى فسألتها عن جمال. وبعد أيام وجدتها تطرق الباب فى الصباح، وكنت لا أزال نائمة فقمت وفتحت الباب، ورأيت معها مجلة المصور وقالت: ها هو ذا زوجك الصاغ جمال عبدالناصر فى صورة مع عدد من الضباط فى الفالوجة.. فعرفت بحصار الفالوجة.
 

كنت من وقت لآخر أطلب من جارتى أن تسأل والدها عن الضباط الموجودين فى الفالوجة، فقالت لى إن والدها سيحضر قريبا، وألحت علىّ فى زيارتها وقت حضوره لأطمئن.. فشكرتها، وهى طيبة جدّا وللآن لا أنساها وأطلب منها زيارتى. كنت لا أزورها إلا قليلا وهى التى كانت تحضر عندى وتقول: لم لا تزورينى وأنت وحدك؟ فكنت أقول لها: إنك مع زوجك وأولادك فلتحضرى أنت فى الوقت الذى يناسبك.
 

فكانت تسأل عنى فى أغلب الأيام.. وهى السيدة نادية المهدى. زارتنى جارتى فى مساء يوم من شهر فبراير سنة 1949 وقالت: اليوم عيد ميلاد ابنى فلتحضرى ومعك هدى ومنى، وأصرت على أن أنزل عندها وقالت: لا يوجد عندى غير شقيقتى التى تصغرنى.. فشكرتها وذهبت ومعى هدى ومنى.

قابلت هناك والدها.. رئيس هيئة أركان حرب الجيش، فطمأننى وقال: إن ضباط الفالوجة بخير، ويرسل لهم أسلحة وذخيرة وتموينا، وإن شاء الله يحضرون قريبا.
 

فى خطاب بتاريخ 21/11/1948 يقول جمال:
 

«أرجو ألا تنشغلى إذا تأخرت فى المكاتبات فأنا أرسلها حسب الظروف ولكنها لا تكون منتظمة فى هذه الفترة على الأقل».
 

وفى خطاب بتاريخ 23/11/1948 يقول:

«... أرجو أن نلتقى قريبا فى أحسن الأحوال. أرجو أن تكونى مطمئنة جدّا... وأنا أحاول باستمرار أن أكتب لك فى أى فرصة وقد كتبت لك ثلاثة خطابات أرجو أن تكون وصلت... وعموما لا تنتظرى خطابات منتظمة فى هذا الوقت. لم أستلم منك خطابات منذ خمسة وأربعين يوما لصعوبة وصولها ولكن عبدالحكيم يطمئننى عليكم باستمرار».
 

وفى خطاب بتاريخ 26/11/1948 يقول:
 

«يمكن أن تصلنى أخباركم عن طريق عبدالحكيم.. أقصد أن تكلمى السيدة حرمه أن تبلغه عن أخباركم باستمرار لأنه يتصل بى يوميا... وأما خطاباتكم فلا يمكن أن تصل الآن... وأنا بخير والحمد لله وكل شىء يدعو للاطمئنان».

وفى خطاب بتاريخ 14/1/1949 يقول جمال:

«ما كنت أعتقد أنى سأفترق عنكم هذه المدة ولكن الحمد لله.. ويشجعنى على ذلك إيمانك العظيم بالله فيجب ألّا تقلقى ولا تحزنى مطلقا لهذا الغياب. سنلتقى قريبا إن شاء الله سويّا ونشكره شكرا جزيلا... فأنا بخير وسننسى كل شىء ونبقى سويّا يا حبيبتى العزيزة إلى الأبد...».
 

وفى خطاب يقول:

«... أرجو أن تفسحى هدى دائما وتأخذيها جنينة الحيوان وجنينة الأسماك.. أرجو أن تكونوا دائما فى أسعد حال».

زرت أختى فى الجيزة، وهى تسكن بجوار جنينة الحيوانات، وأخذت هدى ومنى وذهبنا للحديقة، ولم أذهب إلى جنينة الأسماك لأنى كنت لم أرها وللآن.. وكانت هدى تتكلم وحفظت اسم طائرين.
مكثت فى البيت لا أخرج إلا قليلا أتتبع الأخبار من الجرائد والراديو، وأدعو الله أن ينتهى الحصار فى الفالوجة ويحضر جمال.

شتاء سنة 1949

وكانت جارتى السيدة نادية المهدى ترجونى أن أخرج أو أذهب معها إلى السينما فكنت أرفض، ولم أذهب أبدا. كما أنى لم أتعود أن أخرج مع أى سيدة ولم يكن لى صديقات، بل كانت صلتى بالسيدات محدودة والكل بالنسبة لى سواء.. وكنت أقضى فراغى فى شغل التريكو لهدى ومنى، وابتدأت أشتغل بولوفر لجمال وقلت له فى خطاب: إنى أشتغل لك بولوفر لونه رمادى فاتح.. وهو يفضله فى ألوان البولوفر.
 

وصلنى خطاب بتاريخ 20/1/1949 قال:

«... وإن شاء الله أراكم قريبا جدّا فإن شاء الله سأكون بالقاهرة قبل أول فبراير أو فى الأسبوع الأول... وسنبقى سويّا باستمرار وأظن أن اللحظة التى سألقاكم فيها ستكون أسعد أوقات حياتى... وإن شاء الله يكون البولوفر خلص».. فعرفت أن خطابى وصل له، وفرحت جدّا بقرب حضوره.

هذه أجزاء من بعض خطاباته لى أيام حرب فلسطين محتفظة بها وعددها 46 خطابا.. وكلها بإمضائه الذى لم يتغير.

بعد انتهاء الإجازة الصيفية للطلبة وافتتاح الجامعة لم يعد أحد من إخوته يحضر للقاهرة، وكان عيد الأضحى وكنت منتظرة حضور جمال.. ومضت أيام العيد ولم يحضر ولم يصلنى منه خطاب، فكنت فى غاية القلق والانشغال عليه، وبالإضافة إلى ذلك بقائى بمفردى مع هدى ومنى.
 

وبعد عدة أيام حضر والده وقال لى: سأبقى معك حتى يحضر جمال، ولن أرجع إلى إسكندرية أبدا مهما طال غيابه.. فشكرته لحضوره ورحبت ببقائه معى وشعرت براحة واطمئنان.

كنت أجلس بمفردى فى المساء بعد أن تنام هدى ومنى أشتغل التريكو، وأتذكر حديث جمال لى أيام الخطوبة عن سفرياته وتنقلاته فى البلاد. وكنت وقتها منتظرة أنى سوف لا أعيش فى القاهرة باستمرار، وكنت سعيدة بأنى سأسافر معه. وكنت أقول فى نفسى: أول بلد يسافر إليه يذهب ليحارب؟!.. وهو الآن محاصر فى الفالوجة ولا أدرى متى ينتهى هذا الحصار. والخطابات تصلنى وكلها يشعرنى فيها بأنه فى أمان وأنه سيحضر قريبا.. وأفكر ربما أنه يريد أن يعطينى الأمل ليخفف من حزنى بعد أن طال غيابه.

فى يوم قالت لى جارتى إن صاحبة البيت أبدت لها رغبتها فى أن أترك البيت لأنها سوف تبنى دورا آخر فوق مسكنى، فرددت عليها قائلة: كيف تطلبين منها أن تعزل الآن وزوجها مسافر فى الحرب؟! فاقترحت عليها أن أذهب وأعيش مع أخى.. فقلت لجارتى: أخبريها بأنى سأترك منزلها عند حضور الصاغ جمال عبدالناصر إن شاء الله قريبا.

تليفون من العريش

فى أول مارس سنة 1949 اتصل جمال بالتليفون وقال إنه موجود فى العريش وسيحضر فى خلال أسبوع.. وطلب أن أذهب لأخى فى الصباح ليكلمنى.. فكانت الفرحة العظيمة، وذهبت وكلمنى جمال وسألنى عن هدى ومنى ووالده وأشقائه وقال: أريد أن أكلم الوالد غدا.. فذهب معى لأخى وكلم جمال وكانت فرحتنا لا تقدر وقال لى: سأكلمك كل يوم فى نفس الموعد حوالى الثامنة صباحا حتى أحضر.
 
وفى يوم 6 مارس سنة 1949 فى المساء حضر جمال من الفالوجة.. وكانت الفرحة التى لا أقدر أن أعبر عنها، وكان أشقاؤه قد حضروا من إسكندرية. وعند وصوله عرف الجيران والناس فى المحال القريبة من منزلنا.. والكل كان يعرف الفالوجة والحصار ويريد أن يصافح العائدين منها ويحييهم.. فكانت هيصة أمام البيت.

بعد أن استراح قليلا نهض وقال: سأخلع الملابس الرسمية وألبس البدلة العادية.. لقد أوحشنى اللبس العادى، ثم سأل: أين البولوفر الذى اشتغلته لى؟ وكنت قد اشتغلته وجهزته وعلقته فى الدولاب فأحضرته له فأعجبه لونه ولبسه.. وكان أول لبس جديد بعد رجوعه.. ثم قال لى: سأخرج ولن أغيب فسأذهب للقشلاق وأرجع بسرعة.

كان قد مضى عليه خمسة أشهر لم يرنا.. هدى ومنى تغيرتا وكبرتا.. منى كانت لا تتكلم إلا القليل تعلمت الكلام، وهدى زاد كلامها وفصاحتها.

وطبعا كان الزوار يحضرون بكثرة، وكذلك الأقارب من إسكندرية والصعيد، وكانت الإجازة لمدة شهر. كنت أخرج معه ونذهب إلى السينما، وكان وقتها المعرض الزراعى الصناعى.. ذهبنا وقضينا اليوم كله هناك نتفرج على المعروضات وتناولنا الغداء. قابلنا ضابطا من معارفه كان متزوجا حديثا من أسبوعين، سلم علينا وقال: لسنا وحدنا فى شهر العسل بل أنتم أيضا.. وضحكنا.

الانتقال إلى بيت جديد

فى الأسبوع الأخير من شهر مارس قال لى جمال: قابلت ضابطا أعرفه رتبته كبيرة يملك فيللا فى كوبرى القبة، وبنى دورين جديدين فوق الدور الأول، والدور الثانى فاضى.. ففكرت نعزل ونسكن فى كوبرى القبة. رحبت، فقال: سأذهب لأرى البيت، وذهب مع الضابط ورأى المسكن وقال: إنه لا بأس به فلتذهبى معى وتشوفيه.. فقلت: مش ضرورى أشوفه ما دام عجبك، فلنعزل.. وكوبرى القبة مكان هادئ والدور الثانى السلالم له سهلة. وكنت مقتنعة بأنه أحسن من البيت الذى نسكنه، ولم أذكر له شيئا عن رغبة صاحبة البيت فى أثناء غيابه، وكانت قد حضرت لتهنئتنا بسلامة رجوعه من فلسطين وحدثته عنى وقالت له الكثير من المديح والثناء.
 

وفى آخر شهر مارس سنة 1949.. أى فى نفس الشهر الذى رجع فيه جمال من الفالوجة انتقلنا إلى البيت الجديد فى كوبرى القبة. وقبل مغادرتنا البيت حضرت صاحبة البيت وكانت تسكن بجوارنا ــ يعنى جيران وهو ملكها أيضا ــ وكانت متأثرة وبكت وقالت لى: لقد قلت إنك ستتركين البيت عند رجوع حضرة الصاغ جمال وها أنت ذى تتركينه. وسلمت علىّ بحرارة وهى تبكى.

ذهبت مع جمال وهدى ومنى للبيت الجديد.. وكنت أول مرة أراه كما حدث فى البيت الأول، وأعجبنى جدّا. والبيت مبنى بحيث يكون: البدروم، ثم الدور الأول، والثانى مسكننا، ودور ثالث.

ونظام الأبواب الثلاثة كالبيت الأول مع اختلاف إذ لا يوجد باب يوصل لحجرة السفرة كالبيت السابق، فالباب الثالث على الشمال يوصل لمدخل صغير للمطبخ. والبيت مكون من خمس حجرات منظمة كالآتى: حجرة السفرة ملحقة بحجرة الصالون بدون باب ولها باب على الصالة، والحجرتان تطلان على الشارع.

الصالون به فراندة مستديرة على ناصية البيت ترى الشارع العمومى.. شارع مصر الجديدة، وترى الباص والترامواى والكوبرى الذى يمر تحته المترو أمام المستشفى العسكرى فى ذلك الوقت.. وهى الآن الكلية الفنية العسكرية. أرى الشارع بوضوح إذ بيتنا الثالث فى الشارع بعد فيللتين صغيرتين ولكل فيللا حديقة. حجرة المكتب ملحقة بالصالة بدون باب أيضا وبها فراندة وشباك فى مواجهة الصالة يطل على حديقة المنزل الذى يلى منزلنا، وأرى الشارع أيضا، وفى الناحية الأخرى حجرتان للنوم.

كان جمال يحكى لى عن الوقت الذى قضاه فى الحرب وعن الحصار فى الفالوجة وقال: كانت هناك طفلة كنت أحب أن أكلمها تذكرنى بهدى وفى عمرها، وفى ليلة شعرت بحزن وقلت كيف حال تحية الآن وهدى ومنى؟ ولم أنم.. وكيف كان الرصاص والقنابل تتساقط حوله ونجاه الله، وقراءته للمصحف عدة مرات وتأديته للصلاة، وكيف كان يرسل لى الخطابات مع أحد العرب، ويدفع كل ضابط مبلغا ويصل ما يتقاضاه العربى إلى خمسين جنيها.

إبراهيم عبدالهادى يستجوب جمال


انتهى الشهر الإجازة ونقل العائدون من الفالوجة ــ وهم ثلاث كتائب ــ كل كتيبة فى بلد. وكانت الكتيبة السادسة ــ وهى التى بها جمال ــ نقلت للإسماعيلية، وهو أركان حرب الكتيبة. قال لى: لا يوجد هناك مكان لسكن عائلات الضباط، والمكان عسكرى فقط، وسوف أذهب وأحضر كل أسبوع.. فكان يحضر يوم الخميس ويغادر القاهرة يوم السبت فى الصباح الباكر.. ولم أذهب إلى الإسماعيلية أبدا ومكثت فى القاهرة.

استمر الحال حوالى ثلاثة أشهر، وكانت صحتى متوعكة إذ كنت فى الشهور الأولى للحمل.

فى شهر يوليو قال لى جمال: سأحضر فى إجازة لمدة شهر ففرحت جدّا، وفى أول يوم للإجازة فى الصباح خرج ورجع قبل الثانية عشرة ظهرا، وخلع ملابسه العادية طبعا ولبس البيجاما ورقد على السرير يقرأ. ولم يلبث إلا قليلا وسمعنا أحدا يصفق بشدة ويسأل عن مسكن الصاغ جمال عبدالناصر.


وكان أحد الضباط. قابله جمال وتحدث معه دقائق وارتدى الملابس الرسمية وقال لى: لا تنتظرينى على الغداء سأغيب ولتتغدى أنت والأولاد.. وخرج وركب عربة مع الضابط. تناولت الغداء مع هدى ومنى ومر الوقت عاديا، وحتى حوالى الساعة السابعة لم يحضر.. وابتدأت أقلق: أين ذهب جمال؟ ومن هذا الضابط الذى حضر بطريقة غير عادية يصفق ويسأل بصوت عال عن مسكننا؟ وكنت أشعر بأن ما يحدث حولى غير عادى ولكن لم أفهم شيئا غير الكتمان. جلست بجوار الشباك المطل على الشارع فى حجرة السفرة..


ولم ألبث إلا قليلا ورأيت عربة كبيرة زرقاء تدخل الشارع وتقف أمام منزلنا، ورأيت جمال ينزل من العربة وينتظر شخصا آخر.. وكان عثمان باشا المهدى ــ رئيس هيئة أركان حرب الجيش ــ وكنت أعرفه وحتى عربته إذ كنت أراها أمام منزلنا السابق.
 

خرجت بسرعة من حجرة السفرة ودخلت حجرة النوم، وصعد جمال مع عثمان باشا ودخلا الصالون. وبعد قليل دخل جمال عندى فى الحجرة فقلت له بلهفة: أين أنت؟ إنى قلقة عليك.. فرد وقال: فلتعطنى بسرعة الأسلحة الموجودة عندك، ولاحظ اضطرابى وقلقى فقال: لا تخافى إنى راجع لك.. أسرعى وسأحكى لك عما حصل بعد خروج عثمان باشا، فقلت له: لقد عرفته وكنت جالسة بجوار الشباك.
 


كنت أخفى الأسلحة بين الملابس فى الدولاب.. فى الشتاء أخفيها بين ملابسه الرسمية الصيفية، وفى الصيف أخفيها بين ملابسه الشتوية، إذ كنت أرى أنها يجب إخفاؤها وألّا يراها أحد غيرى، بدون أن يلفت نظرى أو يقول لى شيئا. رجع جمال بعد خروج عثمان باشا وقال لى: كنت عند رئيس الوزراء إبراهيم عبدالهادى.. لقد استدعانى لاستجوابى والتحقيق معى بوجود عثمان باشا، وبقيت هناك للآن، وهو الذى كان يحقق معى ويستجوبنى بنفسه، وكان فى منتهى العصبية، وكنت أجاوبه على كل سؤال.. وأخيرا لم يجد إلا أن يقول لى: روّح، وسألنى هل عندك أسلحة؟ فقلت له: نعم.. وذكرت أنواعها، وكلف عثمان باشا بالحضور معى واستلام الأسلحة. وكنت منتظرا أنه سيعتقلنى لكنه قال لى: روّح.. وهو فى غاية الغيظ والضيق.


مكث جمال الشهر الإجازة فى القاهرة نخرج سويّا ونذهب إلى السينما.. وغالبا الصيفى فى مصر الجديدة، وأحيانا نأخذ هدى ومنى معنا. وكان يقابل الضيوف ويخرج مع بعضهم أو بمفرده.


بعد انتهاء الإجازة نقل من الإسماعيلية إلى مدرسة الشئون الإدارية بالقاهرة، وهى التى يقضى فيها الضباط فترة.. ثم يمتحنون ويحصلون على الترقية.. أى «فرقة». وكانت فرحتى عظيمة بنقله للقاهرة.
اشترى جمال العربية الأوستن السوداء، ودفع ثمنها من النقود التى توافرت معه أثناء مدة الحرب، إذ الراتب كما هو معروف يكون الضعف للمقاتلين، ولم تكن تكفى فكملت الباقى من ثمنها وفرحت بالعربية.

بعد شراء العربة بأيام قليلة قال: سآخذك لمشوار طويل.. وذهبنا إلى القناطر الخيرية ومعنا هدى ومنى وتناولنا الغداء هناك.
كان يحضر إلى المنزل بعض الضباط الذين سيدخلون امتحان كلية أركان حرب، وكان يساعدهم ويجلس معهم وقتا طويلا، وكنت أسمعهم يتكلمون فى موضوعات الدراسة، وكان يعطيهم الدوسيهات التى هو كاتبها ومجهزها بنفسه ويقول لى: إنى أحب أن أساعد كل من يريد أن يتقدم لكلية أركان حرب وأرحب به.













شاهد : هكذا تحدثت تحية عبدالناصر 4
http://shorouknews.com/uploadedImages/Sections/Politics/Egypt/gmal-abdel-nasser.jpg
 فى ليلة 23 يوليو 1952 سألت السيدة تحية كاظم زوجها جمال عبدالناصر لأول مرة منذ زواجهما «رايح فين
».
وكان جمال عبدالناصر يضحك وهو يحكى عن أنور السادات
.
كان جمال قد ارتدى بذلته العسكرية وتأهب للخروج، ما أثار مخاوف الزوجة وحين سألته قال إنه خارج من أجل التصحيح، وكان يعنى تصحيح أوراق امتحانات طلبة كلية أركان الحرب، حيث كان هذا رده كلما رصدت زوجته واحدة من خروجاته الغامضة تحضيرا للثورة. غير أنه قبل ذلك بشهور حدث الآتى كما تروى السيدة تحية كاظم فى مذكراتها: التى تصدر الأسبوع المقبل عن دار الشروق


فى الساعة التاسعة حضر صف ضابط وقال إنه من القيادة العامة فى كوبرى القبة، وإن الذى أرسله البكباشى جمال عبدالناصر ليخبرنى بأنه بخير والحمد لله

حضر زائر قبل رجوع جمال من الشغل وجلس فى الصالون ينتظره، وبعد حضور جمال طلب الغداء مع الضيف. ثم حضر الزائر بضع مرات ينتظر جمال ويتغدى معه، وكان المراسلة عندما يفتح الباب له ويدخله الصالون يقول لى: إنه الضيف الذى يحضر وينتظر جناب البكباشى ويتغدى معه. وطبعا لم يكن يترك ورقة مكتوبا عليها اسمه. قال لى جمال: إنه ضابط مكان شغله ليس فى القاهرة، ويسكن الروضة، وهو الآن حضر فى إجازة.. وكان هذا الزائر أنور السادات

وبعد بضعة أشهر والوقت ابتداء صيف سنة 1952 على ما أذكر.. حضر زائر وكان بعد خروج جمال فى المساء قبل المغرب، وكان المراسلة غير موجود ففتحت له الباب وسأل عن البكباشى جمال عبدالناصر، فقلت له إنه خرج.. فكتب ورقة وانتظرته حتى أعطاها لى.. وضعتها فوق البيانو كعادتى، وبعد رجوع جمال أخبرته بحضور الضيف وأنه أعطانى الورقة بعد أن كتبها، وقلت: إنه أسمر شديد السمرة، فقال: إنه متزوج حديثا وزوجته بيضاء جدّا.. وكان هذا الضيف أنور السادات

نحن الآن فى الأيام السابقة على 23 يوليو

ابتداء الصيف.. شهر مايو ويونيو سنة 1952 فى شهر رمضان


البيت كما هو.. الحركة والخروج والسهر حتى السحور، وحضور الزوار قبل موعد الإفطار وبعد الإفطار. وانتهى رمضان وكان يوم العيد فنذهب لزيارة أخواتى.. قال لى جمال: نذهب لشقيقاتك فى الجيزة.. وكانت اثنتان تقطنان فى عمارة واحدة. ركبنا العربة.. هدى ومنى وخالد فى الخلف وأنا بجواره أحمل ميدو البيبى
.
عندما اقتربنا من البيت، وهو على شارع الجيزة نظر لى جمال وقال: تحبى أمشى بكم شوية للهرم والجو لطيف. قلت له: نعم إنه يسرنى ومعنا الأولاد.. شكرا


ومشينا بالعربة فى طريق الهرم، وأوقفها بالقرب من صندوق بريد، وفتح مظروفا كبيرا كان فى العربة وأخرج منه جوابات صغيرة الحجم وعددها كبير.. كمية جوابات، ووضعها فى صندوق البريد ومشى بالعربة حتى قرب الهرم، ثم نظر لى وقال: نرجع بقى؟ قلت: نعم.. وأدركت أنها المنشورات.. ولم أقل كلمة ورجعنا والأولاد من الفسحة فى طريق الهرم لزيارة أخواتى
.
 
بعد العيد مباشرة قال لى: عندى إجازة لمدة أسبوعين فقط، وسيكون امتحان الضباط فى كلية أركان حرب وانشغل.. نسافر إسكندرية نقضى عشرة أيام مع الأولاد؟ قلت: نعم نذهب للإسكندرية.. وكنت لم أذهب هناك منذ زواجنا أى منذ ثمانى سنوات، أما هو فقد ذهب مرات قليلة لمدة يوم أو يومين لزيارة والده وإخوته الذين يقيمون بها. وكان ذلك فى يوم 29 يونيو سنة
 
1952.
خرجنا فى الصباح فى العربة الأوستن السوداء ومعنا أولادنا للإسكندرية وكان ميعاد زواجنا.. هنأنى وهنأته بعيد زواجنا الثامن، وفى الطريق قال لى: إنها مصادفة.. اليوم عيد زواجنا ونحن نذهب سويّا ومعنا أولادنا بعد ثمانى سنوات منذ ذهابنا سويّا.

وقال: هناك سأبقى معك فى الصباح على البلاج حيث أستحم فى البحر مع هدى ومنى وخالد وسأحملهم وأعومهم، وبعد الظهر سأخرج ثم أرجع قبل المغرب وأخرج معكم فى العربة حتى الليل.. يعنى الساعة الثامنة أو التاسعة وأرجعكم اللوكاندة، وكان قد سافر من قبل وحجز لنا فى لوكاندة بسيدى بشر وكانت جديدة البناء وعلى البحر، ثم قال: وبعد ذلك سأخرج بمفردى لأقابل ضباطا هناك.. فقلت له بالحرف: هم إياهم دول برضه رايحين ورانا فى إسكندرية؟ فضحك جدّا وهأهأ من كلمة إياهم وقال: كثير منهم سبقنا إلى هناك، ومنهم باقون فى القاهرة


كنا فى سيدى بشر وكل الحكومة تسكن سيدى بشر.. وأسمعه يردد اسم حسين سرى ويقول: حسين سرى سافر.. حسين سرى حضر.. وكان منزله بالقرب من اللوكاندة، وكلما مررنا بمنزله فى طريقنا ينظر إليه.. أى منزله، ويردد اسمه وأنا لا ألتفت ولا أشعر بأن وجود حسين سرى فى إسكندرية أو عدم وجوده شىء مهم.. وكنت أرى أنها مجرد ملاحظة

كنا نذهب إلى البلاج أمام اللوكاندة ونجلس تحت الشمسية وينزل البحر ويأخذ هدى ومنى وخالد ويعومهم ويحملهم فى المياه.. وأنا جالسة تحت الشمسية ألاحظهم وبجانبى كرسى الأطفال جالس فيه ميدو البيبى الذى لم يتجاوز الثمانية شهور.. ونرجع وقت الغداء، وبعد ذلك يخرج ويغيب حتى الغروب ــ موعد خروجنا ــ ويقول: أنا كنت جالسا قريبا من اللوكاندة فى الكازينو مع بعض الضباط. وبعد أن نمشى بالعربة على الكورنيش يركنها ونتمشى سويّا ساعة غروب الشمس، وفى المساء يوصلنى اللوكاندة وقت العشاء، ثم يخرج وينام الأطفال وأبقى فى الفراندة بعض الوقت وأنام حتى يرجع.
فى يوم 10 يولية رجعنا للقاهرة.

قبل مغادرتنا إسكندرية قال: نرجع من الطريق الزراعى. فى أثناء عودتنا رأيت اللافتات مكتوبا عليها تفتيش الأمير... تفتيش الباشا... وعليها أسماء لأمراء من الأسرة المالكة وباشوات من الإقطاعيين، والطريق الزراعى أغلبه ملك للملك والأمراء والباشوات فقلت: كل الأراضى والتفاتيش دى ملك للملك والأسرة والباشوات؟ فنظر لى جمال وأنا بجانبه وقال: سوف لا تكون هناك أراض ولا تفاتيش يملكها أمراء ولا باشوات!.. ولم أنتبه لقوله، ولم أعلق بكلمة ولم أفهم شيئا.

رجعنا من إسكندرية، وبعد أيام قليلة حضر أشقاؤه عندنا. والحياة فى البيت كما هى والحركة فى ازدياد بشكل غير معقول.. إذ كان عندما يرجع جمال من الشغل يكون فى انتظاره ضباط، ويبقى معهم ويطلب الغداء ويظل معهم، وعندما يخرج لا يرجع إلا عند طلوع الفجر.. والوقت صيف والجو حار.. أنام وأصحو وأجد الوقت فجرا ولم يحضر.. أقوم وأنتظر حضوره.. أنظر من الشباك.. وظل يخرج بالمسدس



الأسبوع الأخير قبل الثورة

بعد رجوع جمال إلى البيت بعد طلوع الفجر دخل الحجرة، وبعد أن حيانى كعادته قلت له: إنى أخاف عليك وأخاف التشرد والأولاد.. فرد وقال: يا للأنانية كل ما يهمك فى البلد هو زوجك وأولادك.. عائلتك فقط؟ يعنى أنك لا تفكرين إلا فى نفسك.. وانتهى الحديث ولم أقل كلمة، ومشى ليخرج إلى الصالة فالتفت لى وقال: تعالى نجلس سويّا مع إخوتى فى حجرة المكتب.. إنهم استيقظوا من النوم، وكان شقيقه يضع سريرا فى الحجرة أثناء الليل.

جلست معهم.. وبعد قليل استأذنت وقمت لأخرج من الحجرة فقال لى: أين أنت ذاهبة؟ قلت سأذهب لأصلى.. فنظر فى ساعته وقال: أسرعى حتى لا يفوتك وقت صلاة الفجر فالشمس قربت من الشروق.. وبدا على وجهه الارتياح والحب والعطف
وحتى الآن لم أفهم ما الهدف وما الغاية.. لم أفهم إلا خطورة ما يجرى أمامى

قبل الثورة بأيام قليلة قال لى إنه مشغول جدّا فى امتحان كلية أركان حرب، وإنه يشتغل فى تصحيح أوراق الامتحان، وقال لى: اخرجى واتسلى واذهبى إلى السينما مع أخواتك، واصحبى معك هدى ومنى وخالد ــ وكان عمره سنتين ونصف ــ ليروا ميكى ماوس وتذهبى إلى سينما الفالوجة.. وهى قريبة من منزلنا وممكن نذهب لها مشيا، أو أى سينما تعجبك فى مصر الجديدة وأغلبها صيفى الآن والجو حار.. فقلت: نعم سأذهب.. وبقيت كما أنا سعيدة هانئة كل وقتى مشغول، وذهبت للسينما واصطحبت الأولاد كما قال لى


قبل خروجه فى الصباح قال لى: جهزى أكل زيادة لعدد من الضباط.. ويخرج بعضهم ويحضر غيرهم ثم ينصرفون، ويخرج إما بمفرده أو مع واحد منهم ثم يرجع البيت، ويظل يشتغل وينام ساعات قليلة. وظل جمال هكذا حتى قبل الثورة بيومين، وفى الليلتين قبل الثورة لم ينم وظل بملابسه العادية جالسا فى حجرة السفرة على الترابيزة يشتغل. وفى الصباح فى الساعة السابعة يدخل الحجرة ليستبدل بملابسه الملابس الرسمية ونتناول الإفطار سويّا، وقبل خروجه يقول لى: جهزى غداء زيادة لأننا سنجلس كالأمس فى تصحيح أوراق الامتحان.. ويحيينى ويخرج


وكان عبدالحميد ــ ابنى البالغ من العمر ثمانية شهور ــ قد حصل له توعك، وكنت أريد تغيير غذاءه ويلزم أن يراه الدكتور الذى يعالج أولادنا، فعندما رجع جمال من الشغل فى الظهر دخل كعادته يلاطفه ووجده متوعكا فقلت: أريد الذهاب للدكتور لينظم له غذاءه.. متى لا تكون مشغولا حتى نذهب؟ فقال لى: إنى مشغول جدّا، فاطلبى الدكتور ليحضر هنا أو يمكنك الذهاب فى تاكسى.. وكانت تلك أول مرة لا يجد وقتا للذهاب معى للدكتور، وفى اليوم التالى ذهبت بمفردى. وكان قبل خروجه قد طلب أيضا تجهيز غداء زيادة لعدد من الضباط



ليلة الثورة

اليوم الثانى والعشرون من يولية سنة 1952 الساعة السابعة صباحا.. دخل جمال الحجرة وكان يلبس الملابس العادية.. القميص والبنطلون ولم ينم طوال الليل.. جلس فى حجرة السفرة يشتغل كالليلة السابقة.. حيانى واستعد للخروج واستبدل بملابسه العادية الملابس العسكرية وتناولنا الإفطار سويّا


خرج ورجع عند الظهر، وتناول الغداء مع الضباط وظل معهم فى الصالون وحجرة السفرة وقتا ثم خرج الضيوف. تحدث معى جمال وقال: لم لا تخرجين وتأخذين معك هدى ومنى وخالد وتذهبون للسينما والجو حار وتتسلون ويذهب معك إخوتى.. فقلت: نعم سأفكر فى الذهاب
وحيّانى وخرج. بعد خروجه وقرب المغرب فضلت أن أخرج أمشى بالقرب من الحديقة التى أمام قصر القبة، وكانت غير مزدحمة مثل الآن وأغلب البيوت فيللات والمشى لطيف بالقرب من القصر حيث رائحة الأزهار

خرجت ومعى هدى ومنى وخالد ومشينا حتى بعد الغروب ورجعنا وكانت الساعة قبل الثامنة.. قال لى شقيقه: إن أخى حضر من وقت قصير وسأل عنك وعن الأولاد وأخبرناه بأنك تتمشين عند قصر القبة. وبعد قليل حضر جمال وكان يلبس القميص والبنطلون ووجدنى فى الصالة مع الأولاد.. حيانى وقال: أنا جيت وسألت عنك ولم تذهبى للسينما.. فقلت له: إنى فضلت الخروج والمشى فى الهواء الطلق والأحسن ألّا أترك ميدو وأغيب عنه وقتا أطول.. فأخذ يتكلم مع أولاده ويلاطفهم ويقبلهم بحرارة ويقول لهم أسماء الدلع التى اعتاد أن يقولها لهم، ويقبل هدى ومنى وخالد وعبدالحميد وكنت أحمله على كتفى، وخرج بمفرده بنفس الملابس.. القميص والبنطلون


تناول الأولاد العشاء وناموا مبكرين كعادتهم، وظل ميدو البيبى حتى تناول وجبة الساعة التاسعة ونام.. وجلست مع الليثى وشوقى

وقبل الساعة الحادية عشرة مساء قمت ودخلت حجرة النوم. رجع جمال ودخل الحجرة وكنت مستلقية على السرير وكانت مضاءة

كان من عادته أن يغسل وجهه قبل النوم فقلت فى نفسى: إنه لم ينم ولا ساعة منذ يومين وها هو ذا الليلة سينام مبكرا.. وجدته بعد أن غسل وجهه فتح الدولاب وأخرج البدلة العسكرية ووجدته يرتديها.. فقمت وجلست وقلت له بالحرف: أنت رايح فين بالبدلة الرسمية دلوقت؟ وكانت أول مرة أسأله أنت رايح فين منذ زواجنا.. فرد علىّ بكل هدوء وصدر رحب قائلا: أنا لم أكمل تصحيح أوراق كلية أركان حرب ويجب أن أنتهى من تصحيحها، وغدا تكون كلها كاملة التصحيح، ومنذ يومين وأنا أشتغل هنا، والضابط الذى يجلس معى ونشتغل سويّا قال لى نسهر الليلة فى بيته نكمل تصحيح الأوراق، وسأذهب إلى الكلية وسوف لا أرجع البيت الليلة، وانتظرينى غدا وقت الغداء.. وحيانى، وقبل خروجه من الحجرة قال لى: لا تخرجى.. الصالة الآن يوجد فيها ضابط ينتظرنى.. وأغلق الحجرة بعد خروجه منها

بعد أن سمعت باب المسكن يقفل قمت وخرجت من الحجرة.. وجدت أخويه الاثنين جالسين فى حجرة المكتب فقلت لهما: إن جمال اعتقل.. فرد شقيقه ليثى قائلا: لا إنه لم يعتقل اطمئنى.. فقلت: إنه خرج وارتدى ملابسه العسكرية وينتظره ضابط كما حدث يوم أن اعتقله إبراهيم عبدالهادى

أنا شايفة.. البيت مقلوب من ساعة حضورنا من إسكندرية بشكل غير معقول، والضباط والسهر حتى الصباح.. أنا متأكدة أن رئيس الوزارة الجديد نجيب الهلالى الذى عين منذ يومين اعتقله.. فقال شقيقه: لا أبدا اطمئنى إنه لم يعتقل.. وكان على المكتب مصحف أخذه فى يده وحلف وأقسم إن جمال لم يعتقل. فسكتُّ وجلستُ فى الحجرة مع أخويه. سألنى أحدهما: هل تناولت العشاء؟ قلت: لا.. فقال إننا لم نتناول العشاء بعد.. فقمت وأحضرت عشاء خفيفا من الجبنة تناولناه فى حجرة المكتب. جلستُ معهما حتى قبل الثانية عشرة، ثم تركتهما ودخلت حجرة النوم.. واستلقيت على السرير.


بعد دقائق ــ وكانت الساعة الثانية عشرة ــ سمعت صوت طلقات رصاص كثيرة شعرت بأنها صادرة من ناحية قصر القبة.. فقمت مسرعة وخرجت إلى الصالة ووجدت أخويه فقلت: هذا الضرب.. الطلقات فى قصر الملك ولا بد أن يكون جمال من الذين يطلقون الرصاص ويهاجمون القصر.. وبكيت

استمرت الطلقات الكثيرة حوالى عشر دقائق ثم سكتت دقائق وعادت مرة أخرى لدقائق.. واستمررت فى البكاء فقال لى أخوه: إن صوت الطلقات كما هو معروف يصدر من الناحية المقابلة لها وليس من المكان الذى أطلقت منه، إنها ليست فى القصر ولا تنشغلى، ونظر إلى المصحف وهمَّ بأخذه فى يده فقلت له: لا تلمس المصحف، سوف لا أصدقك وأنت تحلف يمينا دون أن تعلم شيئا.. فرجع ولم يلمس المصحف

بقينا جالسين فى حجرة المكتب وشعرت بأن شقيقه يريد النوم فقمت ودخلت حجرتى.. ولم أنم

وبعد وقت وكل البيت هدوء وسكون، قمت فى الظلام لأرى الشارع بعد سماعى طلقات الرصاص الكثيرة، ومشيت لحجرة السفرة وفتحت الشباك أنظر إلى الشارع. وأنا واقفة فى الحجرة فى الظلام رأيت شقيقيه يدخلان وكانا فى الفراندة، وعند رؤيتهما لى قالا: إننا انتظرنا نومك حتى نرى من الفراندة ماذا حصل.. فقلت: وأنا أيضا انتظرت نومكما وقمت فى الظلام لأنظر من الشباك وأرى ماذا حصل. ورجوتهما ألّا يقفا فى الفراندة ويظهرا، وقلت: أنا متأكدة أن البوليس والمباحث يراقبون بيتنا

وبقيت ساهرة أنظر من الشباك إلى الشارع وأنظر من الفراندة، وأحاول ألّا أظهر لخوفى من مراقبة بيتنا، وكنت أرى الشارع من الفراندة بسهولة ووضوح كما وصفت البيت

كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل عندما رأيت شابا يقف فى ناصية الشارع.. وهو ميدان المستشفى العسكرى فى ذلك الوقت

رأيت الشاب طويل القامة يزعق بصوت عال ويقول: عندك.. ثم يتحرك ويمشى بخطوات ثابتة أسمع صوتها ويروح ويجىء ويقول: عندك يا جدع بصوت مرتفع. وأرى العربات تتحول وترجع من الشوارع الداخلية فى كوبرى القبة، ومنهم من كان يمر من الشارع الذى يقع يمين البيت المقابل لبيتنا

ولم أتبين أنه كان صوت جمال، وأن الشاب طويل القامة الذى يتحرك بخطوات ثابتة ويقول عندك يا جدع بصوت عال فى سكون الليل ويرجع العربات ويقفل الشارع هو البكباشى جمال عبدالناصر.. زوجى الحبيب

بقيت واقفة فى الفراندة والشباك ألاحظ هذا الشاب وهو يقفل الشارع وأنا قلقة وأقول: ماذا حصل وقت سماعى الطلقات؟ وكان همى ألّا يكون جمال قد أصيب فى هذه الطلقات

قبل الساعة الثانية صباحا رأيت العربات المصفحة والدبابات والجيش، وكان قد زود بأسلحة بعد حرب فلسطين، فرأيت وسمعت صوت الدبابات وهى تكركر وتمر فى الشارع وتمشى فى ميدان المستشفى العسكرى، وكنت أعرف شوارع ثكنات الجيش وأمر عليها فى خروجى، إذ كانت كلها قريبة من بيتنا.

رأيت أخويه يقفزان من الفرح ويقبلان بعضهما وقالا: افرحى افرحى.. فقلت: وأين جمال؟.. والطلقات التى سمعناها؟ وأخذت أبكى وقلت: الآن أنا فهمت.. إنه انقلاب عسكرى

وأخذ أخواه يهنئانى فكنت أسكت عن البكاء ثم أعود أبكى وأقول بالحرف: بس لو كنت أعرف فين جمال.. وطلقات الرصاص اللى سمعناها؟ قال شقيقاه: لقد أخبرنا قبل خروجه أنه ذاهب فى مهمة خطيرة: فإذا رأيتم الجيش نازلا والدبابات والعربات اعرفوا أنى نجحت، وإذا لم تروا شيئا اسألوا عنى غدا واعرفوا أنا فين. قلت مرة أخرى: أنا الآن عرفت أنه انقلاب عسكرى ونجح، بس أين جمال؟ أريد أن أطمئن عليه.. وكنت أبكى وبقيت جالسة حتى الصباح لم أدخل حجرة النوم
.
 
وفى الساعة السادسة والنصف صباحا يوم 23 يولية سنة 1952 سمعنا خبطا على الباب وفتح شقيقه، وكان الذى حضر ثروت عكاشة وطلب مقابلتى.. ذهبت له عند الباب فمد يده وهنأنى قائلا: أهنئك من كل قلبى.. نجح الانقلاب، فقلت على الفور: وفين جمال؟ قال بالحرف: هو قريب منك بينك وبينه خمس دقائق.. موجود فى القيادة العامة وطبعا تعرفينها؟ فقلت: أمر عليها كثيرا وأعرفها جيدا.. وقال: اسمعى البيان فى الراديو الساعة السابعة.. فشكرته وانصرف.

فتحنا الراديو لنسمع البيان.. وكان هناك عطل فى الإذاعة حتى الساعة السابعة والثلث.. وسمعنا البيان الذى قرأه أنور السادات.

فى الساعة التاسعة حضر صف ضابط وقال إنه من القيادة العامة فى كوبرى القبة، وإن الذى أرسله البكباشى جمال عبدالناصر ليخبرنى بأنه بخير والحمد لله، وأنه سوف لا يحضر وقت الغداء وموجود فى القيادة.

حضر أخى ودخل.. وكنا فى الصالة شقيقاه وأنا.. بعد أن صافحته قلت له يجلس فقال: أنا مستعجل وتركت مكتبى وحضرت، ويوجد عندى ناس ينتظروننى وتركتهم وقلت لهم سوف لا أغيب، وليس لدى وقت للجلوس.. وقال: أنا رأيت الشوارع فيها جيش ودبابات، والإذاعة محاطة بالجيش، وكل الميادين والأماكن المهمة فيها جيش، وسمعت أن الجيش قام بانقلاب عسكرى فانشغلت على البكباشى جمال، وحضرت لأطمئن، لعله لا يكون من هؤلاء الضباط لأن الملك سوف لا يتركهم، وسيعدمهم فورا، وأنا متأكد من ذلك.. فقلت له: اطمئن جمال لا يتدخل فى السياسة، وسألنى: متى خرج من البيت؟ قلت: كالعادة خرج قبل الثامنة صباحا، وصافحنى وخرج قبل أن نقدم له عصيرا أو قهوة.

فنظر لى شقيقاه وهما يبتسمان.. وابتسمت، وما إن سمعت باب عربته يقفل وتتحرك حتى ضحكت وشاركنى شقيقاه فى الضحك وقهقها، ووقفنا نضحك.. ولم أعر كلامه أى اهتمام، وكل ما قاله لى كان فى نظرى هراء بل أضحكنى.

كنا نستمع للراديو وقراءة البيان طول النهار، ونسمع صوت الطائرات وهى تحلق فى سماء القاهرة وتمر فوق كوبرى القبة باستمرار منذ الصباح. فى الساعة العاشرة مساء حضر جمال، وبعد أن هنأته من كل قلبى قال: سأبقى ساعتين فقط وأرجع إلى القيادة.
وحلق ذقنه وأخذ حماما واستبدل ملابسه وجلس معنا فى حجرة المكتب. أخبرته عن أخى وحضوره فى الصباح وسؤاله عنه وقلقه عليه، وما قلته له.. ولم أذكر ما قاله لى عن الملك وعن رأيه فيما سيفعله، فقال لى: إنه سيدهش غدا إذ سيرانى فى الجرائد ويرى صورا لى فى عربة جيب، وقال إنه لف الشوارع الرئيسية فى البلد مع اللواء محمد نجيب ــ وكانت أول مرة أسمع اسمه ــ وإن البلد كلها خرجت لتحيتهم وكلها حماس

قلت له: إنى طول النهار أسمع الطائرات تمر من فوق البيت، وحكيت له عن سهرى طول الليل حتى الصباح، وقلقى عليه عند سماعى طلقات الرصاص.


قال جمال: لقد اقتحمنا القيادة العامة بفرقة من الجيش ومعى عبدالحكيم عامر، ولم يصب إلا اثنان فقط من الجنود.. واحد من حرس القيادة وواحد من الفرقة التى معنا. واستسلم كل الموجودين فى القيادة وكانوا مجتمعين، وأخذتهم واحدا واحدا وأدخلتهم فى مبنى المدرسة الثانوية العسكرية ــ وكان فى منشية البكرى فى ذلك الوقت ــ ثم قال: وسلمتهم للسجّان حمدى عاشور.. وضحك. وبعد أن تم كل شىء خرجت لأقفل الشارع وأرجع العربات المارة قبل مرور الجيش، وكنت واقفا على ناصية الشارع وركنت العربة الأوستن بالقرب منى.. وأضاف وهو يضحك: لِمَ تقلقين وأنا قريب منك على ناصية الشارع، والعربة الأوستن بالقرب منى فى ميدان المستشفى العسكرى؟ فقلت: إنك كنت قريبا ولكن بعيدا جدّا.. وكان يضحك

وتحدث عن الملك وقال: لقد أرسل الملك مبعوثا من قبله وأملينا عليه تغييرات وشروطا، وكل ما طلبناه منه وافق عليه فورا
.
 
وحدثته عن حضور ثروت عكاشة فى الصباح وتهنئته لى وقوله: اسمعى البيان فى الساعة السابعة.. وسمعته. فقال جمال: إنه أنور السادات، وقال: لقد كان هو وزوجته فى السينما، وعندما رجع لبيته وقرأ الورقة المكتوب فيها أن يحضر ارتدى ملابسه العسكرية وخرج مسرعا، وفى طريقه للقيادة عند مدخل مصر الجديدة منعه الضابط المكلف بالوقوف هناك لعدم معرفته كلمة السر، وبعد إلحاح سمح له الضابط بالمرور، وعند مدخل القيادة منع أيضا من الدخول فلف ودار حول القيادة دون جدوى، وأخيرا نادى، وصاح فسمعه عبدالحكيم وعلمت بحضوره ودخل القيادة عند الفجر، وفى الصباح أعطيته البيان ليقرأه فى الإذاعة


وكان جمال عبدالناصر يضحك وهو يحكى عن أنور السادات
وفى الساعة الثانية عشرة مساء قام جمال وقال لى: لا تنتظرينى فسأبقى فى القيادة.. وحيَّانى وخرج



















·          
·          






شاهد.. هكذا تحدثت تحية عبدالناصر (5 )
-
http://www.shorouknews.com/uploadedImages/Sections/Politics/gamal.jpg
 جمال عبدالناصر مع الرئيس اليوغسلافى تيتو
شهر مايو.. سنة 1953

كان جمال يشعر بألم فى بطنه لم أعلم به إلا بعد مدة لعدم وجوده فى البيت أغلب الوقت. فى يوم قبل خروجه فى الصباح قال لى: سأحضر على الغداء وأريد أكلا خفيفا من الخضار المسلوق لأننى أشعر بألم بسيط فى بطنى. جهزت الأكل كطلبه وحان وقت الغداء ولم يحضر. وبعد أن انتظرته تناولت الغداء وقلت إنه مشغول ولم يجد وقتا للحضور. حضر عبدالحكيم عامر وطلب مقابلتى. وقال لى: جمال الحمد لله بخير وفاق من البنج بعد إجراء عملية المصران الأعور له، ويسأل عنك ويريدك أن تذهبى له فى المستشفى الآن. فاندهشت وقلت: كيف أجريت له عملية ولم يقل لى وطلب منى إعداد غداء خفيف؟! قال عبدالحكيم: لقد كنت معه أثناء إجراء العملية والحمد لله. ذهبت له فى مستشفـــــى الدكتور مظهر عاشور الضابط بالجيش. قلت: كيف تجرى عملية ولم أعرف؟! قال: لم أرد إزعاجك. وقال: بعد أن خرجت من البيت فى الصباح حضرت للمستشفى ومعى عبدالحكيم، وكنت مرتبا من أمس الحضور للمستشفى وإجراء العملية، وحتى لا تعلمى بشىء قلت لك جهزى الغداء.. وابتسم وقال: الحمد لله يا تحية. كنت أذهب كل يوم لزيارته ومعى الأولاد، إذ كان يطلبهم، ولا أمكث إلا وقتا قصيرا لكثرة الزوار. قابلت عبداللطيف بغدادى وزوجته فـــــــــى المســــتشفى يزورانه، وكنت أول مرة أراه وأتعرف بزوجته.. وقالت إنها ستزورنى فى البيت. مضى أسبوع ورجع جمال إلى البيت.. وبعد أيام قليلة ذهب إلى مرسى مطروح وذهبت معه والأولاد ورافقنا الدكتور مظهر عاشور، ليكون بجواره وقت النقاهة، ودعا جمال زوجة الدكتور وابنته لتكونا معنا.

مكثنا فى مرسى مطروح فى استراحة قديمة البناء وفى غاية التواضع، ليس بها مفروشات إلا الضرورية وقديمة.. حتى لم يكن بها حجرة سفرة، وتوجد ترابيزة فقط وعدد من الكراسى فى الصالة، وحضر جمال سالم وبقى مدة إقامتنا.. مكثنا أسبوعا ورجعنا القاهرة.

الشكاوى والطلبات تصلنا بكثرة بالبريد أو يحضر أصحابها ويسلمونها لعسكرى الأمن لتوصيلها لى وأعطيها لجمال عند حضوره. قال لى: لا تقابلى أحدا من السيدات إلا بعد سؤالى.. اللاتى لا أعرفهن طبعا. وقعت على رجلى ووضعت ساقى فى الجبس أسبوعين، وبعد فك الجبس كنت أذهب إلى مستشفى الدكتور مظهر عاشور وكان هناك دكتور عظام لعمل علاج بالكهرباء على ساقى. وفى أثناء ذهابى للمستشفى وجدت حرم أنور السادات هناك وأخبرونى بوجودها، وكانت قد أجريت لها جراحة فى أصبع يدها وتمكث فى المستشفى.. زرتها فى الحجرة وكانت أول مرة أراها وأتعرف بها.

كنت نائمة واستيقظت على صوت دخول عربات جمال وأعضاء مجلس الثورة كلهم.. قمت ونظرت من الشباك فى الظلام وجدتهم يدخلون البيت ومعهم اللواء محمد نجيب وعرفت بإعلان الجمهورية.. قلت فى نفسى: كنت نائمة وصحوت على رئيس جمهورية فى نصف الليل فى بيتنا! مكث اللواء محمد نجيب وأعضاء مجلس الثورة وقتا قصيرا وانصرفوا، ودخل جمال الحجرة ورآنى واقفة. حكى لى عن إصرار محمد نجيب على الحضور لزيارته فى بيتنا بعد إعلان الجمهورية مباشرة وتنصيبه رئيسا لها.

فترة المباحثات مع الإنجليز

قبل جلاء الإنجليز عن مصر وقت المباحثات كان جمال يحضر العشاء مع بعض الأجانب وكنت أدعى معه ويعتذر عن عدم حضورى.. ويقول لى بعد رجوعه البيت: إنك كنت مدعوة معى واعتذرت. وسيدات أجانب من الضيوف وزوجات السفراء يطلبن مقابلتى، ويحدد لهن ميعادا لزيارتى وأتعرف عليهن. كنت أجد صعوبة فى التحدث باللغة الإنجليزية، ففكرت فى إتقانها وأحضرت كتبا وبدأت أقرأ كثيرا بمساعدة أستاذة فى اللغة الإنجليزية، كانت تعلمنى الطريقة التى أتقدم بها فى اللغة.. وكنت مهتمة وأظل أقرأ وأكتب وقت سهر جمال.

وكان أحيانا عند رجوعه فى ساعة متأخرة يجدنى لم أزل لم أنم.. وطبعا كنا نضحك. أما اللغة الفرنسية فكنت قد قضيت بضع سنوات وقت الدراسة أتعلمها، ولم أجد صعوبة فى التحدث بها وتقدمت فيها بالقراءة أيضا. فى صيف سنة 1955 ذهبنا إلى الإسكندرية فى بيت على الكورنيش مبنى على صخور عالية مكون من دورين، استأجرناه ولم يشاركنا جيران فيه، وكنت أذهب للشاطئ مع الأولاد وأجلس فى كابينة بسيدى بشر وبجوارى عبدالحكيم. وكان الرئيس يحضر مرات قليلة للإسكندرية ولا يمكث أكثر من يومين أو يوم، ولم يكن حضوره ليستمتع بالبحر، ولم أره ذهب للشاطئ أبدا.. وكان يحضر ليمضى معنا وقتا. وبعد انتهاء الصيف أى فى شهر سبتمبر رجعنا للقاهرة. للآن لم أخرج مع جمال أبدا بعد قيام الثورة إذ لم يكن يوجد وقت أبدا لنخرج سويا.

وكان خروجى قليلا، وكنت أذهب إلى السينما والمسرح الذى أحبه، والأوبرا عند حضور فرق أجنبية، وأحضر حفل أم كلثوم.. وكنت أدعى للذهاب وترافقنى إحدى السيدات من أقاربى أو زوجات الضباط.. وكان يقول لى: فلتخرجى وتتسلى، ويظهر عليه الارتياح والسرور عندما يعرف أننى خرجت أو سأخرج ويقول: المهم أن تكونى مسرورة وتقضى وقتا مسليا.

مؤامرة سلاح الفرسان.. أول الصيف (مايو 1954)

حضر جمال للبيت وكان الوقت المغرب.. قال لى: جهزى نفسك والأولاد واذهبى لشقيقتك فى الجيزة وخذى معك ملابس للنوم وامضى الليلة عندها، ويجب أن تغادرى البيت قبل الثامنة مساء، لأن البيت ربما يهاجم ويحتمل دخول بعض الضباط بالدبابات لنسفه، ولا ترجعى إلا بعد أن أكلمك بنفسى بالتليفون. جهزت شنطة وضعت فيها الملابس وطلبت العربة وهى الأوستن السوداء وكنت أخرج بها، وأدخلت فى الحديقة، وكان جمال فى الصالون ومعه ضباط ولم يغادر البيت. جلست فى حجرة المكتب أنتظر خروجه، وفى الساعة الثامنة مساء دخل جمال الحجرة ورآنى والأولاد لم نزل فى البيت.. قال: كيف لم تغادرى البيت للآن؟ قلت كنت أنتظر خروجك وأخرج. فقال وهو منفعل: يجب أن أذهب إلى القيادة الآن، وكيف أخرج وأنتم ما زلتم فى البيت؟! وكان الذى فكرت فيه كيف أخرج وهو لا يزال فى البيت؟! فقلت: العربة فى الحديقة وسأغادر البيت حالا، وكانت عربته قد دخلت الحديقة أيضا وركبنا.. هو عربته وأنا والأولاد العربة الأوستن وخرجنا سويّا فى وقت واحد. ذهبت لشقيقتى فى الجيزة وكانت الساعة التاسعة فقابلتنى وقالت: الوقت متأخر والأولاد معك.. أين كنتم؟! فأخبرتها عن سبب مجيئنا فى هذا الوقت فسكتت وبان على وجهها هى وزوجها الوجوم.

قضيت الليلة وكنت أنام وأصحو.. كان نوما متقطعا، وكلما صحوت أفكر: ماذا جرى؟ يا ترى هل نسف البيت؟ وفى الصباح كنت أتناول الإفطار مع الأولاد وشقيقتى، وسمعت جرس التليفون وكان المتحدث جمال عبدالناصر.. قال لى: الآن يمكنك الحضور.. أكلمك من البيت وقد حضرت الآن وسأنام. وقد أرسلت لك العربة وهى فى الطريق.. فقلت: الحمد لله. وتركت شقيقتى بسرعة وكانت تصر على أن أبقى معها أتناول الغداء. رجعت البيت.. وجدت جمال لم ينم وقال: إنها كانت مؤامرة فى سلاح الفرسان والحمد لله قبضنا على الضباط المتآمرين. وقال: كنا جاهزين وعارفين الوقت الذى سيتحركون فيه، لكن قلت: ربما تخرج دبابة وتصل للبيت وتضربه، والأحسن أن يكون خاليا حتى أطمئن عليكم.. فقلت: الحمد لله.

العدد الأول لجريدة الجمهورية

بعد قيام الثورة بشهور قليلة بدأ جمال يحضِّر لإصدار جريدة يومية، واشتغل وبذل جهدا كبيرا قبل إصدارها. وكنت أسمعه وهو يتحدث بجانبى بعد رجوعه إلى البيت فى الليل ويوجه تعليمات وترتيبات ومشاورات وكانت تكتب نسخ وأراها فى البيت كنموذج، ويغير ويبدل فى ترتيبها وشكلها عدة مرات وذلك قبل إصدارها.. وأخيرا صدرت جريدة الجمهورية.. وكانت الفرحة على وجهه وهو يسلمنى العدد الأول، وكنت أعتز بجريدة الجمهورية لما شاهدته من اهتمام جمال عبدالناصر بها. كانت مقالات مهمة تصدر فى جريدة الجمهورية باسم أنور السادات والذى كان يكتبها هو جمال عبدالناصر. وفى مرة قلت له: إن هذه المقالة من كلامك وقد عرفته وفهمت أنك كاتبها.. فرد وقال: نعم.

«مصحفا» جمال .. ومحاولة اغتياله بالمنشيةذهبنا إلى الإسكندرية واستأجرنا دورا فى فيللا على الكورنيش.. سكنا فى الدور الأول، والثانى كانت تسكنه عائلة.. أى كنا نشترك مع جيران. كان جمال يحضر كل أسبوع أو أسبوعين ويمضى معنا يوما واحدا ويرجع إلى القاهرة فى منشية البكرى. وكان وقت الحج.. وسافر جمال عبدالناصر لأداء فريضة الحج فى صيف سنة 1954 شهر أغسطس. رجعت من إسكندرية لأكون فى استقباله فى القاهرة ومكثت بضعة أيام ثم عدت للإسكندرية، وبقينا حتى شهر سبتمبر. فى شهر أكتوبر.. فى آخره كان جمال عبدالناصر سيلقى خطابا فى الإسكندرية فى ميدان المنشية. غادر البيت وقت الغروب. وقبل خروجه كان يضع دائما فى جيبه مصحفا صغيرا فى غلاف من المعدن الأبيض. لم يجده وقت خروجه وكان مستعجلا إذ سيسافر بالقطار.. فأخذت أبحث عن المصحف وأنا مسرعة ولم أجده.. فأحضرت مصحفا آخر بغلاف من الكرتون فأخذه جمال ووضعه فى جيبه. وعند خروجه وجدت المصحف ذا الغلاف المعدن الذى اعتاد أن يخرج به فجريت مسرعة وأعطيته له، وكان بالقرب من الباب فأخذه ووضعه فى جيبه وخرج بالمصحفين.. وكان حادث ميدان المنشية بالإسكندرية أثناء إلقائه الخطاب وإطلاق الرصاصات الثمانى عليه ونجاته.. فظل جمال عبدالناصر يخرج بهذين المصحفين حتى يوم 28 سبتمبر سنة 1970. وكان عند رجوعه إلى البيت يضعهما بنفسه فى مكان لا يتغير فى الحجرة.. وقد فعل نفس الشىء يوم 28 سبتمبر سنة 1970.. والآن أنا محتفظة بهما وأعتز بهما. حدثنى جمال عبدالناصر بالتليفون بعد الحادث مباشرة وقال لى: ستسمعين الإذاعة.. أنا بخير لم يصبنى شىء ولا تنزعجى. بعد يومين من الحادث مرض خالد ابنى بالزائدة الدودية وكان عمره 4 سنوات وثمانية أشهر. حضر الدكتور مظهر عاشور وفحصه وقال: يجب إجراء جراحة له فورا. وكان جمال عبدالناصر عنده اجتماع والدكتور ظل مع خالد يلاحظه. وقبل خروجه للاجتماع قال للدكتور: تصرف كما تستدعى الحالة. رجع الدكتور لمستشفاه ليجهز لإجراء العملية، ثم حضر بنفسه وأخذ خالد فى عربة وذهبت معه وكانت الساعة العاشرة مساء. وفى الساعة الواحدة صباحا حضر جمال للمستشفى قبل ذهابه للبيت، ومعه بعض أعضاء مجلس الثورة ليطمئن على خالد بعد إجراء العملية. مكثت فى المستشفى مع خالد ثمانية أيام كان جمال يزوره كل يوم لدقائق. زار محمد نجيب خالد فى المستشفى وأحضر علبة شوكولاتة.

تهنئة برئاسة الوزارة من هيكل

كنت نائمة ومستغرقة فى النوم وسمعت جرس التليفون فأخذت السماعة، وكان المتحدث محمد حسنين هيكل.. قال: أهنئك جمال عبدالناصر رئيس مجلس الوزراء. فقلت: تانى.. فضحك هيكل وهأهأ وقال: أهنئك برئاسة جمال عبدالناصر الوزارة وتقولين تانى؟! وكان فى منصب رئيس الوزراء لفترة قصيرة، وبعد خلافات ومشاكل تركها لمحمد نجيب. وقال هيكل: لقد أردت أن أخبرك وأهنئك قبل وصوله للبيت.. إنه فى الطريق إليه.

مولد عبدالحكيم فى 7 يناير 1955..

قبل ذهابى للمستشفى طلبت جمال عبدالناصر، وكان عنده اجتماع فى البيت مع وفد سودانى والوقت مساء. أخبرته بأننى سأذهب للمستشفى فقال: يوجد عندى وفد سودانى ولكن ممكن أن ينصرفوا وأذهب معك.. فقلت: سأذهب بمفردى ولا داعى للقلق.. فى الساعة الحادية عشرة مساء ولد عبدالحكيم. تحدث الدكتور بالتليفون مع جمال وهنأه وأخبره بأننى والمولود بخير، فرد جمال وقال: سأحضر الآن، فقال الدكتور: لا تتعب ولتبق حتى الصباح. فقال له جمال عبدالناصر: لقد اعتدت أن أحضر معها للمستشفى وأهنئها بسلامتها مباشرة.. وفى الساعة الثانية عشرة مساء حضر جمال ورأى المولود وقال: عبدالحكيم.. وكان قد قال من قبل إن المولود إذا كان ولدا سأسميه عبدالحكيم.

اللقاء الأول مع يوانكا بروز تيتو

فى ديسمبر سنة 1955 حضر الرئيس اليوغوسلافى جوزيف بروز تيتو وزوجته السيدة يوانكا إلى مصر فى زيارة لأول مرة. وكانت السيدات بعد الثورة لا يزلن لا يشتركن فى المآدب التى تقام للضيوف.. فحضرت السيدة يوانكا بروز تيتو لزيارتى مع السيدات المرافقات لها فى منزلنا فى منشية البكرى، وأقمت مأدبة عشاء لهن حضرتها زوجات الوزراء. طلبت السيدة قرينة الرئيس تيتو رؤية أولادنا.. وهى طيبة جدّا ورقيقة تحب الأطفال، وطلبت رؤية عبدالحكيم وكان عمره أحد عشر شهرا، وحملته بين ذراعيها وقبلته.. وهى للآن لا تنسى عبدالحكيم ورؤيتها له أول مرة وتحبه، وكلما زارونا تصافحه بحرارة وتجلسه بجوارها وتدعونا لزيارتهم فى يوغوسلافيا. زرتها فى قصر القبة بمفردى، وكانت أول ضيفة أزورها فى قصر القبة. وأثناء الزيارة دخل الرئيس تيتو الصالون وصافحنى وجلس معنا لدقائق.

تأميم الشركة العالمية لقناة السويس

فى صيف سنة 1956 ذهبنا للإسكندرية فى نفس البيت الذى كنا فيه فى الصيف السابق. وقت الاحتفال بأعياد الثورة وقبل 23 يوليو رجعت والأولاد للقاهرة كما هى عادتنا، وفى 25 يوليو ذهبت إلى الإسكندرية مرة أخرى. وفى يوم 26 يوليو فى المساء حضر الرئيس للإسكندرية لإلقاء الخطاب فى ميدان المنشية، وبعد أن صافحنى قال إن عنده اجتماعا مع الوزراء فى الصالون فى البيت، وسيحضرون بعد قليل. وكنت سأذهب لسماع الخطاب فى عمارة بجوار المبنى الذى سيكون فيه الرئيس فى ميدان المنشية.

خرجت.. وهو لا يزال مجتمعا مع الوزراء فى الدور الأول فى الصالون، وذهبت قبل وصوله وجلست فى شرفة لأراه وأسمعه وهو يلقى الخطاب. حضر جمال عبدالناصر وألقى خطابه التاريخى. بعد رجوعى للبيت حضر الرئيس وجاء كثير من الزوار، وامتلأ الدور الأول وظل معهم ثم صعد للدور الثانى.. ولم ينم وظل طول الليل يتحدث بالتليفون وقال لى: لم يكن أحد من الوزراء يعلم بتأميم القناة غير اثنين.. والباقى ذهل عند سماعه الخبر ونحن مجتمعون فى الصالون. وحدثنى عن كلمة السر دليسبس.. فقلت له: عندما كنت تذكر دليسبس ــ وقد قلتها عدة مرات ــ كنت أقول فى نفسى: لماذا يتحدث عن دليسبس؟ وكانت المفاجأة عند سماعى بتأميم قناة السويس.. وسمعته بصوته ونبراته الرنانة وهو يقول «قرار من رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس». أمضى الرئيس ليلتين فى الإسكندرية فى اتصالات وشغل متواصل ثم رجع للقاهرة.

تغييرات فى بيت منشية البكرى 

البيت الذى نسكنه فى القاهرة فى منشية البكرى ظل كما هو لم يحصل فيه أى تغيير فى المبانى أو الفرش حتى سنة 1956. فى شهر أغسطس ابتدأ بناء دور ثان، ورتب على أن يكون الدور الأول للمكتب وعدد 2 صالون وحجرة للسفرة. والدور الثانى لحجرات النوم والمكتب للأولاد وصالة وحجرة للسفرة ملحقة بالمدخل.

وبقيت والأولاد فى الإسكندرية، والرئيس فى القاهرة فى مبنى مجلس الثورة بالجزيرة أو فى استراحة القناطر. وعند ابتداء الدراسة رجعت من الإسكندرية وكان البناء فى البيت لم ينته بعد، فذهبنا إلى استراحة القناطر.. وفى آخر سبتمبر رجعنا للقاهرة ليكون الأولاد قريبين من المدارس، ومكثنا فى قصر الطاهرة حتى ينتهى البناء فى منشية البكرى.

لم يكن الرئيس مرحبا بالبقاء فى قصر الطاهرة ويشعر بأنه غير مستريح، وكان يقول لى: لا أحب القصور ولا الحياة فى القصور، ويستعجل الانتهاء من البناء ويسأل السكرتير عن اليوم الذى نذهب فيه إلى منشية البكرى، فكان الشغل مستمرا فى بناء الدور الثانى فى البيت حتى ينتهى بأسرع وقت.

مكثنا فى قصر الطاهرة حتى يوم 27 أكتوبر، ورجعنا لبيتنا فى منشية البكرى. قال لى الرئيس: لقد تغيرت موبيليا حجرة السفرة.. إن لها ذكرى عزيزة عندى فقد أمضيت سنين أشتغل فيها، وقضيت ساعات أجلس على الترابيزة وأشتغل حتى يوم 23 يوليو وقال: أين ذهبوا بها؟.









·        

·          
·          
·          
·          
شاهد .. هكذا تحدثت تحية عبد الناصر (6)
-
http://www.shorouknews.com/uploadedImages/Sections/Politics/Egypt/gamal-abdul-nasser.jpg
عبد الناصر يخطب في دمشق
 العدوان الثلاثى 

فى يوم 29 أكتوبر سنة 1956 كان عيد ميلاد ابنى عبدالحميد. كان الرئيس موجودا فى البيت فى مكتبه، وقد طلب منى أن أخبره عند حضور الأطفال إذ كان يسعده أن يحضر حفل أعياد ميلاد أولاده. دخل حجرة السفرة وصافح الأطفال، ووقف لدقائق وقت إطفاء الشموع، وكان عمر عبدالحميد خمس سنوات، ورجع لمكتبه. ثم بعد ذلك ــ وكنت لم أزل فى الدور الأول والبيت ملىء بالأطفال ــ رآنى فى الصالة قبل خروجه وقال لى إن عنده اجتماعا وخرج. فى يوم 31 أكتوبر سنة 1956 حصل الاعتداء الإنجليزى الفرنساوى، وكان الرئيس فى البيت. طلب منى أن أنزل إلى الدور الأول مع الأولاد، وصعد هو إلى سطح البيت ليرى الطائرات، ثم دخل مكتبه وظل فيه. بقيت يومين فى الدور الأول، وهو يخرج ويرجع فى ساعة متأخرة من الليل، ويصعد لحجرة النوم فى الدور الثانى ويطلب منى أن أبقى والأولاد فى الدور الأول، وجهز ترتيبا لنومنا والغارات مستمرة، حتى سقطت قنبلة قريبة من بيتنا وتناثرت شظاياها فى الحديقة، وكان اليوم الثالث للاعتداء وكل الساكنين فى المنطقة قد غادروها. قبل خروج الرئيس فى الصباح، وكنت واقفة معه فى الحجرة، قال لى بالحرف: أنا ورايا البلد وأولادنا وأنت معاك أولادك، وسيحضر صلاح الشاهد ويوصلكم لبيت فى مكان بعيد عن الضرب وقت الظهر. وكان لا يعرف المكان الذى سنذهب إليه فى أى جهه أو شارع.. وحيانى وخرج. ذهبنا لبيت فى الزمالك صغير مكون من دور وبدروم وفى شارع ضيق، وكنت لم أر بيتا فى حى الزمالك بهذا المنظر.. فهو قديم والفرش قديم وغريب، وله حديقة صغيرة جرداء ليس بها زرع. سألت صلاح الشاهد لمن كان هذا البيت؟ قال إن صاحبته أميرة ولم تكن تسكن فيه إذ تعيش فى الخارج. طلبت أن أكلم الرئيس فى التليفون وكلمنى وسألنى عن الأولاد، وفى اليوم التالى طلبته أيضا فى التليفون وتحدثت معه. وبعد ذلك طلبت أن أكلمه فرد علىّ زكريا محيى الدين، وقال: إن الرئيس غير موجود فى مجلس الثورة وذهب فى مهمة، وسيكلمك عندما يرجع إن شاء الله. وطبعا انشغلت جدًا حتى طلبته ورد علىّ بنفسه.. وعلمت بعد ذلك أنه كان فى طريقه لبورسعيد. طلب الرئيس مكالمتى بالتليفون، وكان الوقت الساعة الثامنة صباحا والقتال أوقف قبلها بساعات، وقال: يمكنك الآن أن ترجعى منشية البكرى بعد أن مكثت خمسة أيام فى منزل الزمالك. وجدت حى منشية البكرى خاليا، ولم يرجع أحد لمسكنه، والرئيس ظل فى مجلس الثورة، وكنت أكلمه بالتليفون كل يوم.. وعند انتهاء المكالمة كما هى عادته يقول لى: عاوزه حاجة؟ فأشكره. وبعد أكثر من أسبوع سألته متى ستحضر إلى البيت؟ فقال: بعد خروج الإنجليز. وفى مرة كنت أتحدث معه بالتليفون وكعادته قال: عاوزه حاجة؟ فقلت: عاوزه الإنجليز يخرجوا.. وضحكنا. وبعد ثلاثة أسابيع، وكانت الساعة العاشرة مساء اتصل أحد الضباط بالتليفون، وقال: سيادة الرئيس فى الطريق للبيت، وكنت والأولاد لم نره منذ مغادرتنا منشية البكرى رجع جمال إلى البيت، وكان عنده إنفلونزا وارتفاع فى درجة الحرارة، وقال: لقد صمم الدكتور أن أرجع إلى البيت وأرتاح حتى تزول الإنفلونزا، وإن البقاء فى مجلس الثورة لا يساعد على الشفاء وانخفاض الحرارة سريعا.


أول عشاء رسمى مع الرئيس والإمبراطور هيلاسلاسى

فى شهر فبراير سنة 1959 سافر الرئيس لسوريا وقت عيد الوحدة ومكث نحو شهر.. وبقيت فى القاهرة. فى يونيو سنة 1959 حضرت أول عشاء رسمى مع الرئيس وكان لإمبراطور الحبشة هيلاسيلاسى.. حضره الوزراء وزوجاتهم والسلك الدبلوماسى. وقفت بجوار الرئيس والإمبراطور والمدعوون يمرون لمصافحتنا، وبعد انتهاء الاستقبال شعرت بسرعة فى دقات قلبى وإغماء، وكنت جالسة بجوار الرئيس والإمبراطور.. أخبرته بما أشعر به، فقال لى أن أذهب وأستريح فى حجرة مكتبه.. وكنا فى قصر القبة. غادرت حفل العشاء وأحضر لى طبيبا وظل هو مع الإمبراطور والمدعوين حتى انتهى العشاء.. وكنت تحسنت ورجعت لحالتى الطبيعية ورجعنا إلى البيت. وفى اليوم التالى عمل لى فحص طبيا، ولم يكن بى أى مرض إلا أنه مجرد انفعال لحضورى فى حفل رسمى وأول عشاء لى وكان مع الإمبراطور. فى عشاء آخر.. وكان مع الرئيس نهرو رئيس وزراء الهند.. ذهبت مع الرئيس وجلست على ترابيزة الأكل بين نهرو والرئيس وابتدأنا فى العشاء، وأخذ الرئيس نهرو يتحدث معى وأنا بجواره.. شعرت بسرعة نبضات قلبى والإغماء ونفس ما حصل لى فى حفل الإمبراطور. قررت أن أظل كما أنا فى مكانى ولا أخبر الرئيس، وأتحمل ما يجرى لى حتى ولو توقف قلبى لكن لا أغادر المكان. وفى آخر المأدبة وعند تقديم الحلوى شعرت بحالتى ترجع لطبيعتها، وبعد انتهاء العشاء قمت ومشيت بجوار الرئيس نهرو والرئيس وأنا فى حالة عادية. ونحن راجعون فى الطريق قال لى جمال: لقد لاحظت عليك أثناء العشاء أنك غير عادية فقلت الأحسن ألا أشعرك بأنى لاحظت شيئا حتى لا تزداد حالتك، وأخذت أتحدث مع السيدة التى بجوارى ولم ألتفت ناحيتك. فقلت له ما حصل لى. وفى اليوم التالى عمل لى فحصا طبيًا وقال لى الدكتور: لقد عالجت حالتك بنفسك والآن سوف لا تحصل لك مرة ثانية، وأعطانى حبوبا أتناولها قبل ذهابى لمآدب العشاء الرسمية، وكنت أتناولها قبل خروجى مع الرئيس.. وبقيت هكذا لفترة وكان الضيوف كثيرين.. وبعد ذلك اعتدت وأصبحت لا أتناول الدواء، وأصبح حضورى المآدب الرسمية شيئا عاديا، وكنت فى أغلبها أهدى بنيشان فيتضاعف الموقف الرسمى.


سنة 1958.. ما يشبه الاعتقال

كانت الوحدة مع سوريا فى شهر فبراير.. زاد شغل الرئيس فوق أعبائه وسافر لسوريا ومكث شهرا وبقيت فى القاهرة. فى صيف سنة 1958 ذهب ليوجوسلافيا واصطحبنى معه بدعوة من الرئيس تيتو، وبإلحاح فى دعوتى والأولاد. سافرنا على المركب الحرية، وكانت أول مرة يصطحبنى معه وأسافر للخارج. ذهبت مع الأولاد للإسكندرية ووصلنا للمركب ثم حضر بعدنا، وكان يرافقنا فى الرحلة الدكتور محمود فوزى وزير الخارجية ومحمد حسنين هيكل وزوجتاهما. عندما وصلنا ميناء دبروفننج كان فى استقبالنا الرئيس تيتو والسيدة حرمه.. وكنت أول مرة أشاهد استقبالا رسميا أو أكون فى مكان رسمى، وكانت الموسيقى تعزف ونقف ثم نسير وأنا بجانب الرئيس، وكان يلتفت بسرعة ويقول لى هامسا أقف أو أمشى أو أتقدم بضع خطوات حتى لا أغلط.. ومشيت بتوجيهه همسا ولم أرتبك. تناولنا الغداء مع الرئيس تيتو وكل المرافقين له والمرافقين للرئيس، وفى المساء ذهب هو والمرافقون مع الرئيس تيتو لحضور احتفال بمناسبة تاريخية لا أذكرها فى بلد هناك، ومكثت مع السيدة يوانكا حرم الرئيس تيتو والسيدات المرافقات فى دبروفننج لمدة يومين. رجع الرئيسان وغادرنا دبروفننج لبريونى سويا، وعند صعودنا إلى المركب ووصولنا لجزيرة بريونى كان الاحتفال الرسمى نفسه، وكان الرئيس وأنا أسير بجانبه يلتفت إلىّ ليهمس فيجدنى أتقدم بالخطوات وأقف ثم أسير معه قبل همسه. وفى المساء قال لى: إنك تعلمت. فقلت له: السبب إنى حفظت نغمة الموسيقى. مكثنا فى جزيرة بريونى يومين ثم غادرناها بالعربات نتنقل فى بلاد يوغوسلافيا الجميلة. وكانت تحصل لى مواقف أرتبك فيها، وفى البلد الذى نصل إليه أو نبيت فيه يستقبلنا رئيس جمهورية من جمهوريات يوغوسلافيا كما هو النظام هناك. وأذكر قبل مغادرتنا بلدا فى الصباح قال لى الرئيس: سيكون موجودا رئيس الجمهورية الذى لم يكن قد حضر للبلد بعد عند وصولنا.. فسلمى عليه، قلت: نعم. وعندما نزلنا وكنت بجانبه وجدت واحدا واقفا فى وسط الصالة فى اللوكانده لم أره من قبل فسلمت عليه، فنظر لى الرئيس، وكان الرئيس تيتو مقبلا وبجانبه رجل آخر لم أره أيضا من قبل، وقال هامسا: سلمى على الرئيس تيتو والذى بجانبه. وفى المساء ونحن بمفردنا قال لى: لقد قلت لك سلمى على رئيس الجمهورية فوجدتك صافحت المتردوتيل أولا، وكان الرئيس يضحك وهو يتحدث فقلت له: لقد قلت لى إنه يوجد رئيس جمهورية البلد، وقد حضر فى الصباح فوجدت رجلا لم أره من قبل فقلت فى نفسى هذا هو رئيس الجمهورية.. وضحك جدا وضحكت وقلت: لن أغلط مرة ثانية. وفى اليوم التالى.. وكنا وصلنا لبلد آخر، وكان الرئيس ركب عربة مع الرئيس تيتو وركبت عربة بجوار المدام، ووقفت عربة الرئيسين ونزلا أولا، وكان يقف ثلاثة رجال فى استقبالنا أمام اللوكانده فلم ألاحظ الذى صافحه الرئيس أولا. وفى المساء قال لى: لقد صافحت السكرتير أولا ولاحظت عليك الارتباك.. وضحكنا. وبعد ذلك لم يقل لى ملاحظة فى المساء فقلت له: إننى لم أغلط اليوم وها نحن لم نضحك. قضينا أسبوعا فى يوغوسلافيا، وقامت ثورة العراق أثناء وجودنا هناك وتأزم الموقف الدولى، وغادرنا بريونى بالمركب فى طريقنا للإسكندرية، ولم يكن الرئيس تيتو مطمئنا للسير فى البحر لوجود الأسطول الأمريكى فى البحر الأبيض. وفى طريقنا، ونحن لم نزل فى بحر الأدرياتيك، أرسل برقية يحذر فيها الرئيس من الاستمرار فى الرحلة لخطورة الموقف. كان الوقت مساء.. وكنت مع الأولاد وحرم الدكتور محمود فوزى وزير الخارجية نشاهد فيلما فى السينما وتوقفت المركب عن السير. وبعد انتهاء الفيلم قمت لأذهب إلى حجرتى فقابلنى فى ترأس المركب محمد حسنين هيكل فتبادلنا التحية وقال لى: سأسألك سؤالا.. الموقف فى منتهى الحرج والرئيس تيتو يخشى استمرار الرحلة، والمركب توقف عن السير، والرئيس يشتغل فى حجرة العمليات يتلقى الأخبار والبرقيات، وأنا أفكر ومن وقت وأنا أتمشى وألاحظك تشاهدين فيلما فى السينما فواحد من اثنين.. إما أنا جبان أو أنت شجاعة جدا.. فقلت: لا ده ولا ده إنها مسألة اعتياد.. فقد اعتدت على المواقف الصعبة. فرد: إنى لا أخشى على نفسى قط بل أخشى على الرئيس جمال عبدالناصر فقط، فالأمريكان لا يهمهم إلا هو. قلت: إن شاء الله تنتهى على خير. وظلت المركب واقفة حتى الصباح والرئيس يشتغل، وفى الصباح غادر المركب إلى مدمرة ــ إذ كان يرافقنا مدمرتان ــ ومعه وزير الخارجية ومحمد حسنين هيكل، ورجعت بنا المركب لجزيرة بريونى. وصلنا فى اليوم التالى.. السيدات والأولاد والمرافقون. ذهبنا لفيللا الضيافة، وبعد وصولنا طلبنى الرئيس تيتو لأقابله، وكان يقيم فى فيلا بجوار فيللا الضيافة. قال لى: إن الرئيس جمال عبدالناصر موجود فى الاتحاد السوفييتى فى مكان خارج موسكو، والزيارة سرية وسوف لا يذاع مكان وجوده الآن، ورجوعكم لبريونى سيظل فى الكتمان، وسوف تمكثون فى الفيللا ولا تخرجون حتى لا يعرف مكانكم، ولا تقولى لأحد، وعندما تصلنى أخبار سأخطرك بها. مكثنا يومين لا نظهر خارج الفيللا، والمرافقون، ومنهم كبير الأمناء والطبيب مكثوا فى الدور الذى تحت الدور الأول ببضعة سلالم، وكلما حاول أحد منهم الخروج للحديقة منعه الحرس. طلب كبير الأمناء مقابلتى، وكان منزعجا وقال: إننا نكاد نكون كالمعتقلين، وسألنى إذا كنت أعرف أين ذهب الرئيس، وقال إنه والمرافقين قلقون جدا عليه. قلت: إن الرئيس تيتو قال إنهم فى مكان ما وبخير.. وسوف يخبرنى عندما تصله أخبار. كانت مدام تيتو تحضر وتبقى معنا حتى المساء، وكانت السيدات قلقات وأكثرهن قلقا حرم محمد حسنين هيكل إذ كانت تبكى، وكنا نستمع للإذاعة وعرفنا أنهم وصلوا لسورية.. الرئيس جمال عبدالناصر والمرافقون له. وأخيرا سمح لنا بالخروج، ودعانا الرئيس تيتو فى رحلة فى يخت جميل أمضينا فيه اليوم. بعد أن وصل الرئيس للقاهرة، وكان قد رجع على طائرة سوفييتية، هبطت الطائرة نفسها فى اليوم التالى فى بريونى لنستقلها للقاهرة، وكانت أول مرة أركب طائرة. كان موعد وصولنا يوم 22 يوليه والرئيس سيلقى خطابا فى المساء. أخبره السكرتير عن الساعة، التى ركبنا فيها الطائرة، بينما كان الرئيس فى مكتبه يكتب وحان موعد وصول الطائرة، وكان قد طلب من السكرتير أن يخبره عند وصولنا. ظل الرئيس ينتظر ويسأل السكرتير مدة ساعتين، ويحسب الوقت الذى يمكن أن تطير الطائرة فيه والوقود الذى تحمله ويجد الوقت فات بساعتين. قال لى الرئيس: لقد وضعت القلم وجلست أفكر وأنا فى غاية القلق، وحان وقت خروجى لإلقاء الخطاب فخرجت من المكتب لأركب العربة.. رأيت الضابط يجرى مسرعا، وقال لى: لقد وصلوا المطار فى أنشاص، إذ لم يكن مطار القاهرة قد جهز بعد لاستقبال الطائرات الكوميت النفاثة. قال لى جمال: لقد كان من أحرج الأوقات التى مرت بى يا تحية وأنا أنتظركم وأصعبها.. وقابلنا بحرارة. وكان السكرتير أخبره عن الميعاد الذى ركبنا فيه قبل ركوبنا الطائرة بساعتين.


خريف سنة 1958

بعد رجوعنا من إسكندرية.. مرض الرئيس بالسكر وأخبرنى بمرضه فحزنت جدّا، وكنت أنزل للحديقة بمفردى وأبكى، وانقطعت عن أكل الحلوى لوقت طويل من شدة حزنى، وكنت لا أقدم الأصناف التى لا توافق العلاج فكان يطلبها ولا يأكل منها، وكان يقول لى: الحمد لله إن مرض السكر أخف من أمراض أخرى كثيرة.. ولحرصى الشديد على صحته كنت أقوم بطهى ما يأكله بنفسى فى أغلب الأيام.


ست سنوات مضت ولم نخرج سويا فى عربة

كنا فى استراحة القناطر وكنا راجعين للقاهرة فى المساء، وكنت أركب العربة مع الأولاد ويركب الرئيس عربته.. وكان يفضل أن نسبقه. كنا جالسين فى الحديقة وأنتظر دخول العربة، فقلت: لقد مضت سنوات لم أخرج معك فى عربة.. فقال لى: فلتركبى معى ونرجع سويا، وكان أحد الضباط يقف بجوار عربة الرئيس وعندما رآنى قال: تفضلى.. ومشى لعربتى وظن أنى لم أنتبه لها فوجدنى ركبت عربة الرئيس، وظهر عليه الارتباك فقلت للرئيس: إنهم مندهشون اليوم فقد مضت 6 سنوات لم نخرج سويا فى عربة. لم يكن يوجد وقت يقضيه معى إلا أنه كان يحب أن أكون بجانبه وهو فى البيت وفى حجرته، وإذا صعد من مكتبه أو حضر من الخارج ولم يرنى عند حضوره يقول لى: لقد بحثت عنك ودخلت حجرتك. وأحيانا يدخل حجرات الأولاد وتكون فرصة لملاطفتهم والبقاء معهم لدقائق. لم أره أبدا يستريح، وكل وقته شغل يقرأ أو يكتب أو يتحدث بالتليفون، والوقت الذى لا يشتغل فيه هو الساعات التى ينامها فقط. وكنت أستمع لحديثه بالتليفون ولا أعلق أو أفتح فمى بكلمة مهما كان الحديث من الأهمية والخطورة، والدوسيهات ترسل وأضعها فى حجرته على الترابيزة بجانبه قبل حضوره. وأثناء وجوده فى حجرته ترسل مذكرات يقرؤها ويعطى تعليمات بالتليفون أو يكتب مذكرات وترسل للسكرتارية، والجرائد العالمية ترسل كل يوم ويقرؤها.. فكنت أظل أياما لا أجد وقتا أتحدث فيه معه إلا تحيته لى التى لا ينساها أبدا حتى إذا تكرر دخولى الحجرة عدة مرات.


سنة 1960.. لا لملابس السهرة

تلقى الرئيس دعوة من الرئيس تيتو، ودعانى والأولاد لنقضى أياما فى جزيرة بريونى أثناء إجازة الصيف. وكان الرئيس قد تلقى دعوة مماثلة من ملك اليونان ودعيت معه، وتكررت الدعوة فرتب أن نذهب لليونان فى طريقنا لبريونى. وسافر كبير الأمناء لليونان قبل سفرنا فأخبره رئيس البروتوكول اليونانى أن العشاء يجب أن يكون بملابس السهرة للرجال والسيدات. رجع كبير الأمناء وأخبر الرئيس فرد وقال: لن أرتدى ملابس السهرة أو ألغى السفر لليونان. اتصل كبير الأمناء برئيس البروتوكول فى اليونان وأخبره بما قاله الرئيس، فكان الرد أن الملك يرحب بحضور الرئيس جمال عبدالناصر وينتظر زيارته باللبس الذى يريده.. المهم أن يزور اليونان. ركبنا المركب « الحرية».. الرئيس وأنا والأولاد ووزير الخارجية الدكتور محمود فوزى ومحمد حسنين هيكل وزوجتاهما. وصلنا ميناء برييه واستقبلنا الملك والملكة وأولادهما ــ ولى العهد وشقيقتاه ــ فى قارب حتى المركب، ونزلنا فى الميناء فى استقبال رسمى وغادرنا فى عربات.. الرئيس مع الملك وأنا مع الملكة حتى القصر الذى سنقيم فيه، وكان بجوار قصر الملك. أقام الملك مأدبة عشاء حضرها أعضاء الأسرة المالكة والسلك الدبلوماسى ورئيس الوزراء والوزراء، وكان النظام أن يقف المدعوون على جانبى البهو الكبير ونمر فى الوسط لتحيتنا كما هى عادة الملوك. وقفت الملكة بجوار الرئيس لتتأبط ذراعه وتمشى بجواره فقال لها: سأمشى بجوار الملك وأنت تمشين بجوار زوجتى، فسألته الملكة: وماذا لو تأبطت ذراعك؟ قال لها: إنى أخجل.. فرجعت الملكة ووقفت بجوارى وقالت لى بالإنجليزية: أعطينى يدك أو آخذ يد زوجك.. ومشينا وسط المدعوين يحيوننا.. الرئيس بجانب الملك وأنا بجانب الملكة.


سنة 1961.. الانفصالية

فى يوم 28 سبتمبر فى الصباح.. وكنت بجوار الرئيس.. تلقى مكالمة تليفونية تخبره بأنه وقع انقلاب عسكرى فى سوريا، وكان المشير عبدالحكيم عامر هناك. قام بسرعة وارتدى ملابس الخروج والتأثر يبدو عليه وخرج، ولم أقل أى كلمة كعادتى مهما كان الحديث من الأهمية. سمعته فى الراديو يخطب وهو فى غاية التأثر.. كان شعورى وأنا أسمعه.. متأثرة لحزنه، وفى نفس الوقت للحقيقة لم أكن حزينة للانفصال. بعد إلقائه الخطاب رجع إلى المنزل والتأثر يبدو عليه للغاية، ثم خرج ثانية وبقيت فى البيت أتتبع الأخبار من الإذاعة. وفى الواقع لم تكن الوحدة بالنسبة لى شيئا أستريح له.. لأنه أولا زاد عمله لأقصى حد، وبالإضافة إلى ذلك سفره وقت عيد الوحدة. رجع الرئيس فى المساء وكنت فى الحجرة وبجواره.. لم يقل أى كلمة ولم أقل أى كلمة، وكنت لا أدرى ماذا أكون؟.. زعلانة متأثرة أم لا؟ كنا فى الصيف فى إسكندرية فى المعمورة، وكان قد بنى بيتين متجاورين فى سنة 1959 للرئيس والمشير عبدالحكيم عامر.. المبنى والشكل متطابقان، وقد أصبح بيت المشير عبدالحكيم عامر استراحة الرئيس أنور السادات بالمعمورة فيما بعد. كان المشير يحضر ويجلس مع الرئيس على الشاطئ.. وكان صيفا بعد الانفصال، وكنت جالسة بجوارهما وتكلما عن سوريا والانفصال، فقال الرئيس عنى للمشير: إنها انفصالية، ولم تكن تعجبها الوحدة.. وضحكا. وكانت هى الحقيقة فضحكت وقلت: إنها كانت عبئا وأزيح.. وضحكنا جميعا. كما قلت دائما وهو فى المنزل، فى الوقت الذى يكون فيه فى الدور الثانى، أكون بجواره بالليل أو بالنهار، وهذه رغبته وكان يشتغل باستمرار.. فى الحجرة، فى المكتب، وهو مستلق على السرير، فكنت أستمع لأحاديثه التليفونية وأحيانا يكون المتحدث معه محمد حسنين هيكل. وبعد ذلك فى يوم الجمعة الذى يكتب فيه هيكل مقاله بصراحة فى جريدة الأهرام مرات أجد فى المقالة مما قد سمعت فى حديث الرئيس له.


الوحدة والانفصال

كان الرئيس يسافر فى عيد الوحدة لسوريا ويمكث أكثر من شهر، ولم أذهب معه إذ كان يفضل أن أبقى مع الأولاد.


















هكذا تحدثت تحية عبد الناصر(7)

-
http://www.shorouknews.com/uploadedImages/Sections/Politics/Egypt/gmal-abdel-nasser(1).jpg
 أول يونية 1967.. 

كان الاعتداء الإسرائيلى على سوريا وكان الرئيس يجلس معنا فى الصباح.. قال: إن اليهود سيعتدون على مصر، وحدد بالضبط يوم الاثنين المقبل.. وحصل الاعتداء الإسرائيلى فى اليوم الذى حدده الرئيس.. 5 يونيه 1967 فى الصباح. فى يوم 9 يونيه ألقى الرئيس خطابا، وكنت جالسة فى الصالة كعادتى وقت إلقائه خطاباته أمام التليفزيون ومعى أولادنا، وسمعته وهو يعلن تنحيه عن الحكم، ورأيت الحزن على وجهه وهو يتكلم، ولم أكن أعرف أو عندى فكرة أبدا عن التنحى، وكان يجلس معى عبدالحميد وعبدالحكيم أصغر أبنائى ــ وكان فى الثانية عشرة ــ فرأيت على وجهيهما الحزن، ودخل ابنى خالد الصالة أيضا فقلت لهم: إن بابا عظيم وهو الآن أعظم فلا تزعلوا. رد عبدالحميد وقال بالحرف: أحسن يا ماما علشان بابا يستريح، وقاموا يمشون فى البيت كالعادة. لم تمض دقائق حتى علا صوت الجماهير حول البيت.. وحضر الرئيس وصعد للدور الثانى ودخل حجرته وخلع بدلته ولبس البيجاما ورقد على السرير. انسد الشارع وتعذر الدخول للبيت، ومنهم من لم يستطع الوصول للشارع الذى فيه بيتنا. حضر معظم المسئولين.. نواب الرئيس ووزراء وضباط وامتلأ الدور الأول، ومنهم من كان يبكى بصوت، ويصعد السلالم ويطلب الدخول للرئيس فى حجرته. ورأيت بعضهم جلس على السلالم ينتحب وكنت أسمع صوت بكائه.. فكنت أدخل للرئيس فى الحجرة وأخبره عمن يطلب مقابلته. وقد سمح لعدد قليل بالدخول إلى حجرته.. ثلاثة أو أربعة وأراهم يخرجون من عنده وهم ينتحبون، ثم قام وارتدى البدلة ونزل للدور الأول ومكث معهم لوقت قصير. وصعد إلى حجرته مرة أخرى وخلع البدلة وارتدى البيجاما ورقد فى السرير وأخذ مهدئا وقال: سأنام. وكان محمد علوبة الخاص بخدمته قد صعد وخبط على الباب ومعه مذكرة وأوراق فقال لى الرئيس: قولى له لا يحضر أى أوراق وينصرف، وبقيت بجانبه وأصوات الجماهير تزداد حول البيت. نمت حتى الصباح وقمت كالعادة وأصوات الجماهير والهتافات لم تنقطع وتعلو بشكل لا أقدر أن أصفه، وخرجت من الحجرة وظل هو راقدا على السرير.. وكنت عندما أخرج من الحجرة فى الصباح أخرج بهدوء ولا أدخلها حتى أسمع الجرس ليدخل الخاص بخدمته. وبعد وقت أدخل له ونتبادل تحية الصباح ثم أتركه ويكون قد بدأ فى القراءة والاتصالات.. حتى يطلب الإفطار ويطلبنى لأجلس معه. لم أدخل الحجرة فى هذا الصباح إذ كان يدخل له زوار فرادى يمكثون وقتا قصيرا ويخرجون.. وهو فى حجرته لم يغادرها. وقت الظهر وجدت الحديقة من الخلف يرص فيها كراسى صفوفا، ووجدت الإذاعة والتليفزيون تجهز فى الحديقة، ورأيت مذيعا من الإذاعة وفريقا من الأخبار فى التليفزيون، ونظمت الكراسى ووضعت منضدة أمام الصفوف. سألت: ما هذا؟! فقيل لى إن مجلس الأمة سيجتمع هنا. وكان ترتيب الكراسى والصفوف بشكل أدهشنى وكأنها صالة مجلس الأمة فى الهواء الطلق.. فقلت فى نفسى: لقد رأيت كثيرا من المواقف والمفاجآت الغريبة فى حياتى، وها هى تختتم بمجلس أمة فى البيت. تركت الفراندة، وكنت أعد أكلا خاصا للرئيس فذهبت لإكماله.. فدخلت ابنتى منى وقالت: يا ماما أنور السادات ــ وكان فى منصب رئيس مجلس الأمة ــ يعلن فى التليفزيون أن بابا رجع رئيسا للجمهورية وأنت يا ماما هنا؟ فذهبت للصالة ورأيت أنور السادات وقد قرب من الانتهاء من الحديث فسألت: وما هذا مجلس الأمة الذى أعد فى البيت فى الحديقة والإذاعة والتليفزيون؟ فقالوا لى: إن أعضاء مجلس الأمة لم يمكنهم الحضور لشدة ازدحام الشوارع بالجماهير، وهم مجتمعون الآن فى مقر المجلس بعد أن قبل الرئيس بالعدول عن التنحى. كل هذا والرئيس فى حجرته لم يخرج منها.. دخلت له فى الحجرة ووجدته راقدا على السرير.. ولم أقل شيئا. فى صيف سنة 1967 بقينا فى القاهرة حتى شهر أغسطس فقال لى الرئيس: اذهبى إلى إسكندرية مع الأولاد، وظل هو فى القاهرة. وفى شهر سبتمبر حضر الرئيس للإسكندرية بعد أن أحبط مؤامرة دبر لها المشير عبدالحكيم عامر للرجوع لمنصبه بالقوة، بعد تغيير الرئيس للقيادة فى القوات المسلحة. أمضى جمال أياما قليلة معنا وفوجئ بانتحار المشير.. تلقى النبأ بحزن عميق ورجع للقاهرة.. ورجعت مع الأولاد فى اليوم التالى. وجدت الرئيس حزينا وأشد ما أحزنه أنه عبدالحكيم عامر الصديق، وظل مدة على وجهه الحزن. كان الرئيس يعمل باستمرار.. وأثناء الليل كنت فى أى وقت وبعد أن ينام أسمع جرس التليفون ويكون من القيادة.. والقائد يطلبه فى أى وقت وهو يطلبهم ويعطى أوامر وتوجيهات، وتكون عمليات عسكرية مرتبة وينتظر معرفة النتيجة، ومنها ما كان لا ينفذ حسب تعليماته وتوجيهاته وتحدث أغلاط فكان ينفعل.. وهذا أثناء الليل وأنا بجانبه وأرى على وجهه الضيق. والمذكرات ترسل له فى أى وقت من الليل أو النهار ووقت الغداء الذى كما ذكرت لم يكن له ميعاد.. يجهز الأكل على الترابيزة وأذهب له وأخبره ونجلس كلنا.. الأولاد الموجود منهم على السفرة التى هى فى الجانب من المدخل فى الدور الثانى، وننتظر حضور الرئيس إلى السفرة وهو فى حجرته مشغول بالحديث فى أمور العمل حتى يدخل ويجلس لدقائق يتناول فيها الغداء، وإذا تأخر وطال انتظارنا كان يقول: لقد تأخرت عليكم.. لِمَ انتظرتمونى؟
 


سنة 1968.. 

شعر الرئيس بألم فى ساقه استمر لأشهر، ولم أره قد قلل من شغله أو استراح أبدا. قابل السفير محمد عوض القونى فأخبره أنه كانت عنده الأعراض نفسها فى ساقه، وذهب لبلد فى الاتحاد السوفييتى حيث توجد مياه معدنية تعالج هذه الحالة، وعمل حمامات لمدة ثلاثة أسابيع وشفى تماما بعد فترة، وكررها فى العام الذى تلاه وأصبح لا يشعر بتعب وقد مضت عدة سنوات. وكان الرئيس فى زيارة للاتحاد السوفييتى فى الصيف، وقبل عودته للقاهرة عمل له فحص طبى هناك وطلب منه الأطباء أن يقلع عن التدخين.. وتوقف عنه وهو فى الاتحاد السوفييتى، وكانت آخر سيجارة أطفأها هناك. قالوا له أيضا عن العلاج بالحمامات بالمياه المعدنية فرد: سأحضر للعلاج.. وكان ترحيبا بالغا وعاد للقاهرة. كان أول حديث له معى أنه توقف عن التدخين قبل يومين، وحدثنى عن السفر للاتحاد السوفييتى للعلاج وقال: سترافقينى ــ إن شاء الله ــ وسيرافقنا أولادنا خالد وعبدالحكيم وعبدالحميد. فى آخر يوليو غادرنا القاهرة على طائرة سوفييتية خاصة بالرؤساء جاءت للقاهرة خصيصا لنسافر عليها. وصلنا لجمهورية جورجيا فى مطار حربى، وكان فى استقبالنا رئيس الجمهورية وزوجته، ورافقونا لبلدة سخالطوبو التى توجد فيها المياه المعدنية والحمامات لعمل العلاج، وتبعد نصف ساعة بالعربية عن المطار، وهى بلد صغير به ثلاث أو أربع مصحات، ومنظم لإقامة المرضى ومرافقيهم من أهلهم فقط، وبه شارع كبير واسع حوله أشجار منسقة ومقاعد، وفى آخر الشارع توجد محال أغلبها لبيع المرطبات والفاكهة، وكل شىء لخدمة المرضى والمرافقين لهم، ولا توجد مبان للسكن، ولا يذهب إليها إلا المواطنون الروس. أخليت مصحة لإقامة الرئيس، وكان يزوره كبار الأطباء، وأقام معنا طبيب ليتولى مباشرة العلاج، وكان الرئيس قد أبدى رغبته بأن تكون الزيارة للعلاج فقط ولا يقابل المسئولين هناك. رتبت رحلة لأولادنا لقضاء وقت على الشاطئ فى البحر الأسود وزيارة موسكو. وكان الرئيس يخرج كل صباح إلى الحمام الذى يبعد عن المصحة بدقائق ويرجع ونتناول الإفطار سويّا، ويخرج فى المساء حسب تعليمات الأطباء ليمشى لوقت فى الشارع، ويرافقه الدكتور المصرى الصاوى حبيب والروسى والسفير المصرى والسكرتير الخاص والضباط المرافقون. وكنت أخرج أمشى مع حرم السفير وكان يقيم معنا فى المصحة، وأحيانا كنا نتقابل مع الرئيس ونراه وهو جالس على أحد المقاعد ومعه المرافقون، وما زلت أحتفظ بصورة وأنا أمشى فى الشارع وهو جالس على المقعد. كان الترحيب بالرئيس أثناء إقامته فى سخالطوبو بالغا من الموجودين هناك، يقفون لينتظروه وهو ذاهب للحمام، وهو يتمشى فى الشارع فى المساء. كان كل ليلة بعد الساعة التاسعة مساء يجرى اتصالات بالتليفون فى القاهرة، والحديث كله شغل وتوجيهات وتعليمات، وترسل له الجرائد العربية والأجنبية ويستمع للإذاعة. انتهت أيام العلاج ورجعنا للقاهرة وقد مضت 23 يوما.. وكان الأطباء الروس قد قالوا إن نتيجة العلاج سوف لا تظهر مباشرة، وسيستمر الألم فى الساق لأكثر من شهر ثم يزول بالتدريج.. وشفى الرئيس وذهب عنه الألم الذى كان فى ساقه والحمد لله.
 


عبدالحميد فى الكلية البحرية

فى سبتمبر سنة 1968 التحق عبدالحميد بالكلية البحرية، وكانت رغبته وهو لايزال فى الثانوى أن يلتحق بكلية عسكرية واختار الكلية البحرية. بعد الأسبوع الأول من ذهاب عبدالحميد للكلية كنت أجلس مع الرئيس وقال: وحشنا ميدو.. فقلت: إن أهالى الطلبة يزورونهم كل أسبوع.. فقال: يمكنك أن تزوريه وتقابليه خارج الكلية إذا كنت ترغبين.. فقلت: نعم. وفى الأسبوع التالى ذهبت إلى إسكندرية بمرافقة إخوته، وعمل ترتيبا لخروج عبدالحميد وقت الزيارة المحدد لأهالى الطلبة، ومقابلتى فى العربة بجوار سور الكلية. عندما وصلت للكلية رأيت ضباطا واقفين عند الباب.. حيونى ومشيت بالعربة حتى آخر السور، وخرج عبدالحميد مع ضابط وجاء لى بمفرده فهلل إخوته عند رؤيته وهو حالق شعره ويرتدى الملابس العسكرية. بقى معنا حوالى عشر دقائق ورجع للكلية، ودخل مع الضابط الذى كان ينتظره بجوار الباب.. كانت توجد حجرة بجوار الباب يقابل الطلبة فيها أهلهم. قال لى الرئيس: إن شاء الله يا تحية نذهب سويّا فى حفل التخرج ونرى عبدالحميد ضابطا بحريا. كنت أذهب كل أسبوع لزيارة عبدالحميد حتى انتهت الفترة التى يظل فيها الطلبة المستجدون فى الكلية ولا يسمح لهم بالخروج، وفى آخر مرة أمطرت السماء أثناء الزيارة. قبل حضور عبدالحميد فى أول إجازة قال لى الرئيس: اطلبى المصور ليأخذ لنا صورا معه وهو بالملابس العسكرية وقت حضوره ومقابلتنا له. طلبت المصور قبل وصول عبدالحميد، وأخبرت الرئيس بميعاد حضوره فقال إنه مشغول الآن، وحضر عبدالحميد وأخذت لى صورا معه فى الحديقة عند دخوله البيت. تخرج عبدالحميد فى الكلية البحرية فى 29 يونيه 1972.. زارنى قائد الكلية لدعوتى لحضور حفل التخرج.. وبعد انتهاء الحفلة دعانى وزير الحربية وقائد الكلية لتناول الشاى، وحضر المدرسون وطلب قائد الكلية الضابط عبدالحميد جمال عبدالناصر لمصافحتى.. وهنأته وودعونى بالترحيب وكأنى مع الرئيس.


الانشغال بالقوات المسلحة

الرئيس مشغول جدا وأهم ما يشغله هو القوات المسلحة وإعادة بناء جيش قوى وطرد اليهود. كان يتصل فى أى وقت من الليل بقائد القوات المسلحة، والمقاتلون يقومون بعمليات داخل سيناء، وينتظر رجوعهم ولا ينام حتى يعرف النتيجة. وإذا حصلت خسائر أرى الحزن على وجهه.. هذا فى الوقت الذى أكون فيه بجانبه، وعند نجاح العمليات أرى على وجهه الارتياح. وفى مرة كان الطيران قد قام بعملية وطائرة فقدت وكان الوقت بعد الظهر، حزن على الطيار.. وكنت معه فى الحجرة وسمعت ما دار من حديث. وفى المساء.. وكنت أمشى فى الحديقة ونزل.. وكان يمشى أحيانا لدقائق قبل حضور زائر، فقابلنى وقال لى: لقد وجد الطيار وهبط بالمظلة سالما.. ورأيت على وجهه الارتياح وقال لى: إنى أخبرك لأنى أعرف أنه يسعدك أن تعلمى بسلامة الطيار. وكنت أتأثر جدا عند سماعى لخسائر وأرتاح لنجاح العمليات، ولا أعلق بكلمة كما هى عادتى. وكان الرئيس يطلب منى كثيرا الدعاء بالنصر أثناء تأديتى للصلاة ويقول لى: ادعى على اليهود. لم أكن أتكلم معه فيما يختص بالسياسة أبدا إلا إذا هو تكلم.. وكان قليلا ما يتكلم معى فى موضوع يتعلق بالسياسة. وفى مرة كنت أتحدث معه فقلت له: أنا لا أتحدث إلا عن أشياء عادية ربما تضايقك فقال لى: تكلمى كما أنت.. وهذا يعجبنى منك ويسلينى ولا يضايقنى أبدا بل العكس إنه يريحنى حديثك الذى يبتعد عما يتعلق بالشغل أى السياسة. الرئيس مشغول جدا ببناء الجيش والحصول على السلاح وتدريب الجيش.. وكل الحديث الذى أسمعه عن الحرب والسلاح. والضيوف.. رؤساء الدول الصديقة يحضرون بكثرة، والعشاء يقدم فى البيت حيث توجد حجرة كبيرة للسفرة التى تستخدم صالة للسينما، وترتب فيها المائدة وتقام مأدبة العشاء ويحضر الضيف والوفد المرافق له ونواب الرئيس ووزير أو اثنان، وكنت أحضر العشاء وأرافق الرئيس فى استقبالهم فى المطار، إذ غالبا ما يكون الضيف ترافقه زوجته.


النوبة القلبية الأولى صيف 1969

بعد انتهاء امتحان خالد وحكيم ذهبت إلى إسكندرية إذ كان الرئيس يحب أن أكون مع الأولاد هناك، وكان يذكرنى بأن أنبههم ألا يذهبوا بعيدا فى البحر، وظل هو فى القاهرة فى منشية البكرى حتى شهر أغسطس. حضر إلى الإسكندرية.. وبقى بضعة أيام أمضاها كلها فى مقابلات وشغل.. يجلس فى صالون يطل على البحر أو فى مكتبه وأمامه دوسيهات يعمل باستمرار. قال لى إنه سيسافر ــ إن شاء الله ــ للاتحاد السوفييتى ويقابل المسئولين فى موسكو، ثم يذهب لسخالطوبو لعمل العلاج بالحمامات هناك مرة أخرى، وكان الأطباء السوفييت نصحوه بأن يكرر العلاج بعد سنة. وقد بنى بيت جهز لاقامة الرئيس وقت العلاج، وقال لى الرئيس: سترافقينى، وسيكون السفر فى شهر سبتمبر فى الأسبوع الأول إن شاء الله. رجع الرئيس إلى القاهرة، وبقيت فى إسكندرية حتى شهر أغسطس. فى أول سبتمبر قامت ثورة ليبيا وانشغل الرئيس بأخبارها وتأجل السفر للاتحاد السوفييتى، ولم تمض إلا أيام قليلة وحضر قادة الثورة فى زيارة للرئيس.. فقال لى: إن السفر سيكون فى منتصف سبتمبر ــ إن شاء الله. بعد أيام شعر بتعب وارتفاع فى درجة الحرارة، وأشار عليه الأطباء بالراحة فى السرير.. وكانت النوبة القلبية. لم يخبرنى وقال لى إن عنده إنفلونزا، وكان قد أوصى الأطباء بألا يخبرونى عن مرضه. وبعد أيام.. وكنت أقابل ضيوفا فى المساء فى الدور الأول.. وبعد انتهاء الزيارة وجدت أدوات بجوار السلم فسألت: ما هذا؟ فقالوا لى إنها لعمل أسانسير.. ففهمت وصعدت السلالم وأنا أبكى. قابلنى الدكتور الخاص خارجا ووجدنى أبكى فقلت: إنى رأيت استعدادا لعمل أسانسير.. إن الرئيس به شىء فى قلبه. وطبعا الدكتور نفى وقال لى: إن أحد الأطباء المعالجين له مريض بالقلب ولا يستطيع أن يصعد السلالم، وسيجهز الأسانسير من أجله.. وطبعا الدكتور فوجئ ولم يجد كلاما يقوله لى غير هذا. ودخلت حجرتى وبكيت كثيرا. لم أظهر أى شىء أمام الرئيس ولم أذكر الأسانسير.. وبقيت كما أنا بجانبه.


كيف أمضى الرئيس أيام المرض؟

كان يتحدث بالتليفون طوال اليوم فى توجيهات مع القوات المسلحة والوزراء وغيرهم، وقد لاحظ ذلك الطبيب الخاص الصاوى حبيب الذى كان يقضى وقتا فى البيت، ويقوم بتحضير الدواء فى أوقاته وينتظر حتى تنتهى المكالمة. وكنت قد لاحظت المجهود الزائد الذى يقوم به الرئيس رغم أنى لم أكن أعلم عن المرض فى الأيام الأولى إذ كان يطلب وجبات الطعام تجهز على ترابيزة صغيرة فى الحجرة، وأجلس معه ونتناول الطعام سويا.. أى لم يكن يرقد فى السرير كما أعرف عن مرضى القلب.. ويقوم للحمام ويحلق ذقنه كالعادة، وكل ما كان يفعله ألا يذهب للصالة حيث حجرة الطعام الملحقة بها، أى أنه لم يكن يستريح فى السرير كل الوقت، وأحيانا كان يجلس على فوتيه موجود فى الحجرة فى مكانه للآن. وقد أخبر الطبيب الخاص الأطباء المعالجين فنصحوه بالراحة التامة لكنه ظل كما هو. وبعد أقل من أسبوعين كان يطلب الزائر، ويصعد للدور الثانى ويقابله فى المكتب الملحق بحجرته ويجلس معه لوقت.. والمقابلة شغل. وبعد شهر سألنى: هل انتهى عمل الأسانسير؟ فظهر علىّ الارتباك.. فقال: إنى أعلم أنه يجهز فى البيت أسانسير، وقد سألنى الأطباء ووافقت وإنك لم تقولى لى عنه.. فقلت: نعم إنه انتهى العمل فيه.. وقال: غدا ــ إن شاء الله ــ سأنزل للدور الأول. وفى اليوم التالى حضر مقابلة، وظل حوالى شهر يقابل الزوار فى الدور الأول، وأحيانا فى مكتبه فى الدور الثانى. بعد مضى شهرين حكى لى الرئيس عن مرضه وقال: إنه كان نوبة قلبية لكن حاجة بسيطة الحمد لله.. فقلت: إنى فهمت وكنت أعرف، وابتدأت أشعر بالدموع فخرجت من الحجرة.. بعد شفائه جاء شهر رمضان.. وكان أول مرة يفطر فيه الرئيس ولم يصمه.. يتناول وجبة خفيفة وقت الظهر ويتناول معنا الإفطار وقت المغرب.


عودة إلى العمل المكثف

فى شهر يناير سنة 1970 سافر الرئيس لموسكو ورافقه طبيب اختصاصى مع الطبيب الخاص فى زيارة قصيرة لمدة أربعة أيام. استمر الرئيس يخرج فى المساء، ويجتمع بالضباط فى القيادة، ويسهر لساعة متأخرة كما كان يفعل قبل مرضه. كان بعد أن ينتهى من الشغل والمقابلات فى الدور الأول.. يطلب البالطو وقت الشتاء ويخرج، ولم يقلل من شغله أبدا، وكان الأطباء يطلبون منه الراحة ويقول لهم: إنى أنفذ كل ما تطلبونه من علاج إلا أن أستريح وأقلل من الشغل.. فهذا ليس فى إمكانى تنفيذه. وكان يذهب للجبهة ويجتمع مع المقاتلين ويبقى يوما أو يومين. وفى مرة بعد عودته من زيارة الجبهة قال لى: كنت أتمنى لو أبقى هناك حتى لو أموت.. وكان قد أمضى يومين بين المقاتلين وحرب الاستنزاف على أشدها.. مع المجندين والكثير منهم من خريجى الجامعات والمعاهد ويقومون بعمليات بطولية داخل سيناء. كان الرئيس عند حدوث خسائر يحزن حزنا شديدا.. وقال لى يوما: عندما أرى خالد ابنى أكاد لا أقدر أن أنظر اليه ويزداد حزنى إذ أراهم مثله تماما ويذكرنى بهم.. وكان خالد وقتها طالبا فى كلية الهندسة جامعة القاهرة. ذهب الرئيس لاستراحة القناطر الخيرية وكنت فى منشية البكرى، وكان يوم عيد ميلاده فى 15 يناير 1970. ذهبت والأولاد لنقضى اليوم معه فى القناطر، وكنا ــ أولاده وأنا ــ كل واحد يقدم له هدية رمزية ونحتفل بعيد ميلاده. ولم يكن يشاركنا أبدا فى الاحتفال، ونحضر حلوى ونضع عليها الشموع ونطفئها كلنا، وكان يخرج من حجرته لينزل للدور الأول فيرى الحلوى على الترابيزة فى حجرة السفرة الملحقة بالصالة فيبتسم ويحيينا وينزل لمكتبه أو يخرج.. وكان البيت يملأ بالأزهار المهداة للتهنئة بعيد ميلاده. رجعت بعد الظهر لمنشية البكرى واحتفلنا بعيد ميلاده وأطفأنا الشموع، وظل هو فى استراحة القناطر حيث أمضى يومين. فى فبراير 1970 ذهبنا بالقطار لأسوان، وكان الرئيس تيتو رئيس جمهورية يوغوسلافيا سيحضر ومعه السيدة يوانكا حرمه فى زيارة لمصر، وأبدى رغبته أن تكون مدة إقامته فى أسوان. رافقنا فى الرحلة أنور السادات، وكان الرئيس قد عينه فى منصب نائب رئيس الجمهورية حديثا، كما رافقنا فى الرحلة حسين الشافعى وعلى صبرى وزوجتاهما. أمضى الرئيس تيتو أربعة أيام فى أسوان، وبقينا هناك ورجعنا للقاهرة بعد أن قضينا أسبوعا. لم يكن الرئيس يتنقل داخل الجمهورية بالطائرة، حتى أسوان كان يفضل الذهاب إليها بالقطار، وعند ذهابه إلى إسكندرية يذهب اليها بالعربة أو بالقطار.










·        

·          
·          
·          
·          
شاهد .. هكذا تحدثت تحية عبد الناصر (8)

-
جماهير غفيرة خلال تشييع جنازة الزعيم عبد الناصر
 صيف 1970.. 

نجح عبدالحكيم أصغر أبنائنا فى الامتحان لينتقل من سنة ثانية ثانوى إلى الثالثة. قبل الامتحان قال له الرئيس: إذا كانت النتيجة أكثر من80 فى المائة تطلب أى شىء تريده ومحمد أحمد ــ سكرتيره الخاص ــ يحضره لك. نجح عبدالحكيم بمجموع 84 فى المائة، ودخل لوالده يخبره، وكان حكيم كل يوم ينتظر فرصة ليدخل لوالده فى حجرته فيصافحه ويقبله، وإذا كان الرئيس أحضر كاميرا أو راديو أو جهاز تسجيل صغير يلفت نظره ويقول له: هل أعجبتك؟ وعند خروج عبدالحكيم من الحجرة يقول له: خذها معك.. ثم يقول لى: إنه جدع لطيف. هنأ الرئيس ابنه عبدالحكيم وقبله وسأله: ماذا تطلب؟ رد عبدالحكيم قائلا: يا بابا أنا لا أريد شيئا السنة دى.. أريد أن أذهب إلى لندن لمدة أسبوع مع مهندس الطائرة سعد الصيرفى، الذى كان يرافق الرئيس فى رحلاته، وكان حكيم يقابله فى مكتب السكرتارية.. فقال له الرئيس، وكنت فى الحجرة وقت دخول حكيم: إن لك أخوة فى الجبهة الآن فى الحر وأنت تذهب إلى لندن؟ إن شاء الله بعد ما نطلع اليهود أرسلك تسافر كما تشاء حتى لو طلبت أن تذهب لطوكيو. وكان عبدالحكيم فى الخامسة عشرة من عمره فقال: نعم يا بابا. وطلب من محمد أحمد شراء موتوسيكل.. وكنت لا أوافق على ركوب الموتوسيكل، فأحضره ولم يظهره لى حكيم حتى رأيته فى إسكندرية وهو يركبه. كنت أجلس مع الرئيس فى حجرته وتحدث معى عن أنور السادات نائب الرئيس وقال: إنه أطيب واحد ويحبنا.. ولا ينسى أبدا.. ودائما يقول لى أنا لا أنسى فضلك.. لم أكن فى الثورة وأنت بعت لى وجبتنى، وقال لى الرئيس: إنت عارفة إنه ما كانش فى الثورة وأنا بعت جبته؟ فقلت: نعم أعرف ذلك. ولم يكن أنور السادات فى القاهرة وقت قيام الثورة وأرسل الرئيس فى طلبه من رفح. سافر الرئيس للاتحاد السوفييتى وذهبت إلى إسكندرية مع خالد وعبدالحكيم، وكان بعد انتهاء امتحان آخر السنة. بعد انتهاء زيارة الرئيس لموسكو وقبل عودته عمل له فحص طبى، وأشار عليه الأطباء هناك بأن يذهب فى مكان قريب من موسكو.. وقالوا له: إنك لم تستكمل العلاج وقت النوبة القلبية وكان يلزمك وقت للراحة. وكان ضمن المرافقين هيكل ورجع بعد انتهاء الزيارة فى موسكو.. طلبنى فى التليفون، وقال لى: إن الرئيس يهديك سلامه وهو بخير وسيبقى فى الاتحاد السوفييتى أسبوعين للاستجمام. وقت وجود الرئيس فى موسكو خرجت لزيارة إحدى السيدات فى المساء، وبعد رجوعى للمنزل قال لى السفرجى: إن سيادة النائب أنور السادات حضر فى غيابك وسأل عنك وعن الأولاد، ولم يكن أحد منهم موجودا. كنت قلقة على صحة الرئيس لبقائه فى الاتحاد السوفييتى رغم مكالمة هيكل لى، وطلبت أنور السادات فى التليفون وسألته عن صحة الرئيس فقال لى: اطمئنى إنه بخير وبصحة جيدة. بقيت فى إسكندرية حتى قبل رجوع الرئيس بيوم، ثم رجعت للقاهرة مع الأولاد لنكون فى استقباله، وكان قبل عيد ثورة 23 يوليو بأيام قليلة. حكى لى الرئيس عن بقائه فى الاتحاد السوفييتى وأنهم قالوا له إنها الطريقة التى يمكن أن يستريح بها أن يبقى هناك، وقال: لقد قلت لهيكل أن يتصل بك عند حضوره مباشرة حتى لا تقلقى.. فقلت: نعم لقد كلمنى هيكل وطمأننى. كان يوم 23 يوليو 1970 فى المساء وجلست كالعادة أمام التليفزيون مع أولادى نستمع لخطاب الرئيس، الذى أعلن فيه الانتهاء من بناء السد العالى وهنأ الشعب ببناء السد.. وكان آخر خطاب له فى عيد الثورة. مكثنا فى القاهرة بضعة أيام وقال لى الرئيس: لا داعى للبقاء هنا فى الحر، اذهبى والأولاد للإسكندرية.. وإن شاء الله سأحضر بعد أيام قليلة. نشر فى الجرائد عن مرض أنور السادات بالإنفلونزا.. وعندما حضر الرئيس إلى الإسكندرية سألته عن أنور السادات فقال: إنه موجود فى إسكندرية، فقلت: ممكن أذهب لزيارته؟ وكان الرئيس قد زاره فقال لى: كما تريدين. ذهبت لزيارة أنور السادات ووجدته جالسا فى الفراندة.. واستقبلنى بترحيب ومكثت زيارة قصيرة معه. أمضى الرئيس فى إسكندرية 11 يوما قضاها فى شغل كالعادة ورجع للقاهرة، ثم سافر للخرطوم لحضور مؤتمر. بقيت فى إسكندرية مع الأولاد، وكان الرئيس يطلبنى كل يوم بالتليفون من القاهرة ويسأل عن الأولاد، وإذا كانوا موجودين فى البيت يتحدث معهم، وكان يقول لى: أنا بمفردى فى البيت.. ويقول لى بالحرف: البيت وحش جدّا لا يطاق من غيرك والأولاد.. فأقول له: احضر.. وأكون مسرورة بوجودى معك.. فيقول لى: أنا مشغول وأخرج، ولا أرجع إلا فى وقت متأخر من الليل وسوف تكونين بمفردك.. فالأحسن أن تبقى مع الأولاد فى إسكندرية. فى أول سبتمبر سافر الرئيس إلى ليبيا لحضور احتفالات الثورة، وكان أول عيد لثورة ليبيا.. وبقى هناك أياما قليلة. وحضرت للقاهرة والأولاد لنكون فى استقباله ثم رجعنا لإسكندرية، وكانت رغبة الرئيس أن يستمتع خالد وحكيم بالبحر، وما زال هناك وقت على انتهاء الإجازة.. وقال إنه سيكون مشغولا ولن يكون عنده وقت يقضيه معنا.. وأضاف: وإن شاء الله سأحضر لإسكندرية قريبا، وأبقى معكم فترة. لم يحضر الرئيس لإسكندرية وظل يكلمنى كل يوم بالتليفون، وكان أحد الضيوف سيحضر.. رئيس جمهورية هنجاريا ولا ترافقه زوجته فلم أذهب للقاهرة لأكون مع الرئيس فى استقباله. وفى يوم 12 سبتمبر رجعت للقاهرة مع خالد وعبدالحكيم.. وكان اليوم السبت إذ أراد حكيم أن يقضى فى إسكندرية يوم الجمعة.


مؤتمر القمة 

بقينا فى إسكندرية حتى يوم الاثنين 21 سبتمبر.. لم أره يستريح، وكل وقته كان مشغولا بمتابعة أخبار الاعتداء على الفلسطينيين فى الأردن. وأمضى يومى الأحد والاثنين يمهد لمؤتمر قمة عربى، ويطلب الرؤساء والملوك العرب بالتليفون ويتحدث معهم، وقال لى: سنغادر الإسكندرية فى المساء، وكان فى الصباح ــ وهو يوم الاثنين ــ قد علم بوفاة زوجة خاله فقال: سأذهب لتعزية أولاد خالى ونحن فى طريقنا للقاهرة، إذ يقيمون فى إسكندرية. مكثنا عندهم نصف ساعة.. وفى الساعة السابعة مساء غادرنا إسكندرية للقاهرة. أثناء الطريق تحدث بالتليفون، وهو فى العربة وعلم أن الرئيس الليبى معمر القذافى يصل فى نفس الليلة فقال لى بعد وصولنا: سأخرج لأجتمع مع الرؤساء الذين وصلوا فقلت: الأحسن أن تستريح الليلة.. فرد: لقد عملت ترتيب مقابلتهم. ورجعنا البيت بمنشية البكرى وكانت الساعة نحو العاشرة مساء. استبدل الرئيس ملابسه وخرج.. وكنت قد رقدت فى السرير أستريح، وأنا أعرف ما بذله من مجهود طوال اليوم وأراه يخرج.. رجع فى الساعة الثالثة صباحا.

اليوم التالى الثلاثاء خرج فى الصباح ورجع قبل تناول الغداء، وفى المساء خرج ورجع بعد تناول العشاء مع الضيوف فى قصر القبة. يوم الأربعاء خرج فى الصباح وتناول الغداء مع الضيوف وظل خارج البيت، وفى المساء خرجت لزيارة إحدى قريباتى وتسكن فى الدقى.. دعوتها أن تحضر معى للبيت لتشاهد فيلما فى السينما. عندما رجعت إلى البيت وجدت الرئيس فى حجرته.. دخلت له فوجدته يستعد للخروج.. تبادلنا التحية وقلت له: لقد كنت عند قريبتى وأحضرتها معى لنشاهد فيلما فقال: أحسن فلتتسل معها، ثم أضاف: سأذهب وأبقى فى الهيلتون مع الضيوف حتى ينتهى المؤتمر.. وحيانى وخرج حتى المدخل بجوار السلم.. وخرجت معه ووقف نحو دقيقتين يقرأ فى نوتة صغيرة ثم حيانى ونزل السلالم.. وبقيت واقفة فنظر لى مرة ثانية وهو ينزل السلالم وحياتى بيده.. وكان ذلك من عادته قبل خروجه إذا كنت واقفة أثناء نزوله السلم. خرج وقريبتى جالسة فى الصالون فى الدور الثانى، وكان يدخل الصالة، ويصافح الضيوف الموجودين ويكونون عادة من الأقارب، لكنه لم يدخل فى هذه المرة.


هل تأتين معى إلى مرسى مطروح؟

فى اليوم التالى خرج الرئيس فى المساء وذهب للقيادة كالعادة ورجع فى ساعة متأخرة. فى يوم الثلاثاء.. وكان الرئيس سيغادر القاهرة فى المساء بالقطار للإسكندرية ويبيت فيها، ثم يذهب بالقطار أيضا لمرسى مطروح فى اليوم التالى.. قال إنه سيزور القوات المسلحة هناك وسيرافقه وزير الحربية وحسين الشافعى، وسيحضر الرئيس الليبى معمر القذافى فى زيارة ليوم واحد. أثناء تناولنا الغداء قال لى: هل تحضرين معى؟ قلت: إنه يسرنى أن أذهب معك لمرسى مطروح.. وكنت لم أذهب إليها منذ 1953، وقت أن رافقته مدة النقاهة بعد أن أجريت له عملية الزائدة. غادرنا القاهرة ومعنا عبدالحكيم، ونحن فى القطار قال الرئيس: لم أر عبدالحميد منذ نحو شهرين.. وقت الإجازة كنت فى موسكو، وعندما رجعت كان عبدالحميد فى رحلة مع الكلية فى البحر، وغدا إن شاء الله سأغادر إسكندرية وضحك.. وكان وزير الحربية جالسا معنا فى الصالون. بعد وصولنا للمعمورة.. نحو الساعة التاسعة مساء طلبنى عبدالحميد بالتليفون، وقال: لقد قالوا لى أن أخرج وأحضر للبيت.. يا ماما أنا لا أريد أن أخرج بمفردى فى غير وقت الخروج، إنى أشعر بإحراج ولا أريد الحضور للبيت الآن.. وسألنى: هل طلبتم خروجى؟ وكان متضايقا وهو يتحدث. ودخل الرئيس أثناء الحديث فقلت له: عبدالحميد يتحدث.. فأخذ السماعة وحياه بحرارة وقال له: وحشتنى جدا يا ميدو.. كما تريد.. افعل ما يريحك.. فقلت: فليحضر لنراه.. فقال لى الرئيس: إنه جدع حساس وضحك، وقال: إنه وزير الحربية الذى طلب خروجه بعد الحديث فى القطار، ثم دخل حجرته. بعد وقت قصير.. وكان يتحدث بالتليفون وكنت فى الصالة ورأيت عبدالحميد أمامى. استقبلته بحرارة ودخلت معه للرئيس فى الحجرة فصافحه وقبله ثم قال له وهو يضحك: إنك تدخن.. وسأله عن عدد السجائر التى يدخنها، وقال له: لا تدخن كثيرا حتى لا تضر بك، وبعدين لما تكبر يقول لك الأطباء لا تدخن.. ثم استمر فى الحديث بالتليفون. وكان الذى يتحدث معه هيكل.. وحكى له وهو يضحك عن عبدالحميد، وكيف أنه شم رائحة السجائر وهو يقبله، وكان الرئيس لم يدخن ولو سيجارة واحدة منذ أن كان فى الاتحاد السوفييتى فى شهر يوليو 1968 وطلب منه الأطباء عدم التدخين. جلسنا نتناول العشاء، وقال عبدالحميد: لقد رفضت الخروج، وبعد شوية قال لى الضابط النوبتشى: إنك يجب أن تخرج الآن فلدينا أمر بخروجك، فسأله الرئيس ومتى سترجع الكلية؟ قال: إنهم قالوا لى ارجع الكلية الساعة العاشرة صباح الغد، لكن يا بابا أريد أن أرجع الليلة حتى أكون مع الطلبة فى الصباح.. فقال له الرئيس: اذهب يا بنى كما تريد، وصافحه ودخل حجرته.. وغادر عبدالحميد البيت للكلية بعد تناوله العشاء معنا.. وكانت آخر مرة رأى فيها الرئيس ابنه الطالب فى الكلية البحرية فى السنة الثالثة. فى اليوم التالى.. وكان يوم الأربعاء قبل الظهر غادرنا الإسكندرية بالقطار لمرسى مطروح، وكان وزير الحربية وحسين الشافعى فى القطار معنا. قال وزير الحربية للرئيس: لقد طلبت خروج عبدالحميد من الكلية وذهابه للبيت لتراه، وبعد وقت سألت عنه إذا كان غادر الكلية، فقالوا لى إنه رفض الخروج فقلت: فليخرج بالأمر.. وشكر وأثنى على عبدالحميد وقال: إنه طالب مثالى فى تهذيبه وأخلاقه.. إنه غير معقول ويمدح فيه المدرسون فى الكلية ويحافظ على واجباته.. فشكره الرئيس. وصلنا مرسى مطروح فى المساء.. وكان الاستقبال من الجماهير كالعادة حارا، وذهبنا لنقيم فى بيت المحافظ وكان خاليا. كان الرئيس يخرج فى مرسى مطروح، وفى مرة كان سيمشى على البحر فقال لى: تعالى معى، وذهبنا لبيت قريب من البيت الذى نقيم فيه وقال: إنها استراحة يقيم فيها حسين الشافعى، وكان قد حضر بعد أن أخذ حماما فى البحر.. مكثنا وقتا قصيرا معه ورجعنا البيت. فى اليوم التالى حضر الرئيس الليبى معمر القذافى ومعه عدد من أعضاء مجلس الثورة، ومكثوا يوما واحدا تناولوا فيه الغداء مع الرئيس فى البيت فى الدور الأول، وتناولت الغداء فى الدور الثانى مع عبدالحكيم، وقبل خروج الرئيس الليبى ومرافقيه طلبنى الرئيس لمصافحتهم. مكثنا ثلاثة أيام زار فيها الرئيس القوات المسلحة فى مرسى مطروح. وفى يوم السبت غادرنا بالقطار للإسكندرية، وفى الطريق أثناء سير القطار وفى المحطات كان الأهالى ومعهم أولادهم يقفون لتحية الرئيس، فنظر لى وقال: إننى أشتغل من أجل هؤلاء.. فقلت: إنهم فى مظهر أحسن من قبل، فرد، وقال: أريد أن ينال هؤلاء الأطفال فرصة التعليم والعلاج والمظهر كخالد ابننا.. لم يحن الوقت بعد. وكان الرئيس يتأثر عند رؤيته لطفل يشتغل عند أسرة كخادم، وكان يقول لى: إنها مشكلة لا تحل إلا بالتدريج، ويستطرد: ليس فى وسعى عمل شىء إلا العمل باستمرار على رفع مستوى الفلاح فى القرية والكادحين ونشر التعليم.. وإن شاء الله تتلاشى.


اللحظات الأخيرة

لبث الرئيس فى الهيلتون.. وكنت أتتبع الأخبار فى الجرائد والإذاعة والتليفزيون. وفى يوم الأحد، وكنت جالسة أمام التليفزيون وكانت نشرة الأخبار الساعة التاسعة مساء تقرؤها المذيعة سميرة الكيلانى، وقالت: لقد تم الوفاق واختتم المؤتمر أعماله، وغادر الضيوف من الملوك والرؤساء القاهرة، وكان فى توديعهم الرئيس وسيغادر الباقى غدا.. فهللت من الفرحة وصفقت بيدى، وكانت ابنتى منى حضرت فى هذه اللحظة، وبعد انتهاء نشرة الأخبار قالت لى: نشاهد يا ماما فيلما فى السينما؟ ونزلنا للدور الأول. وفى الساعة العاشرة والنصف جاء لى السفرجى يقول: لقد حضر سيادة الرئيس.. فقلت لمنى: فلتكملى أنت الفيلم وسأصعد، وتركتها. دخلت الحجرة وجدت الرئيس راقدا على السرير.. صافحته بحرارة وقلت له: الحمد لله لقد سمعت نشرة الأخبار وفرحت جدا وهللت.. فقال: الحمد لله.. وكان قد طلب العشاء وسألنى: هل تناولت عشاءك؟ فقلت: نعم.. وجلست معه ولم يأكل إلا لبن زبادى ورجع إلى السرير. لم تستكمل منى مشاهدة الفيلم وطلعت ودخلت حجرة والدها وصافحته وجلست معه على طرف السرير، وحضر خالد أيضا وصافحه وجلسا فى الحجرة قليلا يتحدثان مع والدهما.

ظل الرئيس يتحدث فى التليفون حتى الساعة الثانية عشرة ثم قال: سأنام مبكرا، وغدا سأذهب فى الصباح لتوديع الملك فيصل وأمير الكويت.. وأطفأ النور ونام. فى الصباح استيقظ الرئيس قبل الثامنة، وحضر الطبيب الخاص وكنت قد قمت وخرجت من الحجرة ودخلت حجرتى، استعدادا للدخول للرئيس فى حجرته لأتناول معه الإفطار فدخل لى فى الحجرة لتحيتى قبل خروجه وقال: سأذهب للمطار.. ووجدت الإفطار قد جهز فى حجرته ولم يتناول شيئا، وعلمت أنه تناول فاكهة فقط. رجع الرئيس فى الساعة الثانية عشرة وحضر الطبيب الخاص ودخل له، وكنت سأدخل للرئيس ووجدت الدكتور يجرى له فحص رسم قلب فرجعت ولم أدخل له فى الحجرة، ثم بعد ذلك خرج الرئيس مرة ثانية لتوديع أمير الكويت. رجع الرئيس من المطار فى الساعة الثالثة بعد الظهر، وعند خروجى من حجرتى وجدت ابنتى هدى تستعد لتذهب إلى بيتها بعد أن انتهت من الشغل، وكانت تجلس فى مكتب والدها فى الدور الثانى تعمل سكرتيرة له منذ عام. وكان الرئيس بعد مضى بضعة شهور من شغلها معه قال لى: إن هدى الآن تدربت على العمل معى وتعلمت وتريحنى.. وكان سعيدا بها. قالت لى هدى بصوت خافت.. وكنت قد مشيت حتى باب حجرة النوم: إن بابا تعبان وسينام.. فرآنى وقال: تعالى يا تحية.. فدخلت الحجرة، وأشار لى بيده وهو راقد على السرير أن أجلس.. فجلست على طرف السرير فسألنى: هل تناولت الغداء يا تحية؟ قلت: نعم تناولته مع الأولاد.. فقال لى: أنا مش هاتغدى.. وأشار لى بيده أن أبقى كما أنا جالسة.. فبقيت حوالى عشر دقائق وهو راقد لم يتكلم. وحضر الدكتور الصاوى حبيب فقال له الرئيس: ادخل يا صاوى فدخل، وقمت كعادتى عند دخول الأطباء له فى الحجرة وخرجت إلى المكتب، فقال الدكتور: نريد عصيرا.. فذهبت وأحضرت عصير برتقال وليمون جهزته بنفسى بسرعة وحملتهما ودخلت له فى الحجرة..وقلت: هذا برتقال محفوظ وليمون طازج فقال: آخذ برتقال، وشرب الكوب وأنا واقفة وقال لى: متشكر. خرجت من الحجرة وجلست فى حجرة المكتب، وبعد دقائق حضر طبيب اختصاصى.. منصور فايز فقلت له بالحرف: أنت جيت ليه يا دكتور دلوقتي؟ أنا لما بأشوفك بأعرف إن الرئيس تعبان وبأكون مشغولة.. فرد: أنا معتاد أن أحضر كل أسبوع فى يوم الاثنين واليوم الاثنين.. ودخل للرئيس. بقيت جالسة فى حجرة المكتب وسمعت الرئيس يتحدث، وسمعت الراديو.. نشرة الأخبار فى إذاعة لندن. قالت لى منى ابنتى: بابا بخير والحمد لله.. تعالى نخرج من هنا. وخرجت معها وجلسنا على الترابيزة فى حجرة السفرة، وبعد دقائق جاء لى الطبيب الاختصاصى وقال: الرئيس الآن تحسن وإذا أردت الدخول له فلتدخلى.. وأخذ يدخن سيجارة فقلت له: لا داعى حتى لا يشعر بأنى قلقة. بعد لحظات جاء الدكتور الصاوى يجرى مسرعا قائلا: تعال يا دكتور.. ودخل الدكتور يجرى، ودخلت لحجرة المكتب ومنعتنى منى من الدخول لوالدها وقالت: إن بابا بخير لا تخافى يا ماما، وأجلستنى فى حجرة المكتب وجلست معى. وبعد فترة حضر دكتور آخر ثم ثالث.. فدخلت عنده ووجدت الأطباء بجانبه يحاولون علاجه.. وكنت أبكى وخرجت حتى لا يرانى الرئيس وأنا أبكى، ثم دخلت له مرة ثانية وازداد بكائى وخرجت وجلست فى حجرة المكتب، ودخل عدد من السكرتارية، ثم حضر حسين الشافعى ومحمد حسنين هيكل.. وكل واحد يدخل الحجرة ولا يخرج منها.. وكنت أبكى. أصرت منى على أن أخرج إلى الصالة فكنت أمشى وأقول: جمال جمال.. ووجدت الكل يخرج وينزل السلالم فدخلت مسرعة.. رأيت حسين الشافعى يخرج من الحجرة يبكى ويقول: مش معقول يا ريس. وحضر خالد وعبدالحكيم فى هذه اللحظة ولم يكونا فى البيت ولا يدريان شيئا، ودخلا مسرعين، وحضرت هدى وكانت لا تعلم بما جرى بعد ذهابها لبيتها. دخلت للرئيس ووقفت بجواره أقبله وأبكيه، ثم خرجت من الحجرة لاستبدل ملابسى وألبس ملابس الحداد. ونزلت مسرعة إلى الدور الأول ووجدت الكل.. الأطباء والسكرتارية وهيكل وحسين الشافعى وأنور السادات حضر.. والكل واقف فى الصالون. قلت لقد عشت ثمانية عشر عاما لم تهزنى رئاسة الجمهورية ولا زوجة رئيس الجمهورية وسوف لا أطلب منكم أى شىء أبدا.. أريد أن يجهز لى مكان بجوار الرئيس لأكون بجانبه.. وكل ما أرجوه أن أرقد بجواره. خرجت إلى الصالة وجاء لى هيكل والدكتور الصاوى وطلبا منى أن أصعد للدور الثانى، ثم أدخلنى الدكتور حجرتى وأعطانى بضع حبات دواء وظل بجانبى، ثم أعطانى حقنة. وحضرت إحدى قريباتى وظلت معى، وجاء عبدالحميد من إسكندرية ودخل لى فى الحجرة وهو يبكى، وقال: لقد قالوا لى إن بابا تعبان وحضرت فى طائرة، ودخلت هدى ومنى.. ولم أدر كم مضى من وقت.. فقمت لأخرج من الحجرة فقال لى الدكتور: لماذا قمت؟ فقلت سأذهب وأجلس بجانبه.. فقالت هدى: لقد ذهب بابا لقصر القبة.. وذهبنا معه.. فقلت: حتى الآن أخذوه! والآن أعيش المرحلة الثالثة من حياتى حزينة أبكيه.. وقد زاد حزنى حسرة، وسأظل أبكيه حتى أرقد بجانبه فى جامع جمال عبدالناصر بمنشية البكرى.. وقد جهز لى المكان كما طلبت. إنه جمال عبدالناصر الذى عاش عظيما.. وهو فى رحاب الله عظيم.. تاريخه وحده هو شاهده




تحية جمال عبد الناصر

ليست هناك تعليقات: